فصل: مَرَاْتِبُ التَّعْدِيْلِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح التبصرة والتذكرة ***


مَرَاْتِبُ التَّعْدِيْلِ

326‏.‏ ‏(‏إِبْنُ أبي حَاتِمِ‏)‏ إِذْ رَتَّبَهُ *** وَالْجَرْحُ وَالتَّعْدِيْلُ قَدْ هَذَّبَهُ

327‏.‏ مَا فِي كَلاَمِ أَهْلِهِ وَجَدْتُ *** وَالشَّيْخُ زَادَ فِيْهِمَا، وَزِدْتُ

هذهِ الترجمةُ معقودةٌ لبيانِ أَلْفاظهِمِ في التعديلِ، التي يَدُلُّ تغايُرُهَا على تبايُنِ أحوالِ الرواةِ في القوَّةِ‏.‏ وَقَدْ رتَّبَ ابنُ أبي حاتِمٍ في مقدّمةِ كتابِهِ ‏"‏ الجرحِ والتعديلِ ‏"‏ طبقاتِ أَلْفَاظهِمِ فيهما، فأَجادَ وأَحسنَ‏.‏ وَقَدْ أَوردَها ابنُ الصلاحِ وزادَ فيهِمَا ألفاظاً أَخَذَهَا منْ كلامِ غيرِهِ‏.‏ وَقَدْ زِدْتُ عليهِمَا أَلفاظاً من كلامِ أَهْلِ هذا الشأنِ غيرَ مُتمَيِّزَةٍ بـ ‏(‏قُلتُ‏)‏ ؛ ولكنِّي أوضِّحُ ما زدْتُ عليهِمَا هنا إِنْ شاءَ اللهُ تَعَالَى‏.‏

328‏.‏ فَأَرْفَعُ التَّعْدِيلِ‏:‏ مَا كَرَّرْتَهُ *** كَـ ‏(‏ـثِقَةٍ‏)‏ ‏(‏ثَبْتٍ‏)‏ وَلَوْ أَعَدْتَهُ

329‏.‏ ثُمَّ يَلِيْهِ ‏(‏ثِقَةٌ‏)‏ أوْ ‏(‏ثَبْتٌ‏)‏ اوْ *** ‏(‏مُتْقِنٌ‏)‏ اوْ ‏(‏حُجَّةٌ‏)‏ اوْ إذا عَزَوْا

330‏.‏ الحِفْظَ أَوْ ضَبْطاً لِعَدْلٍ وَيَلِي *** ‏(‏لَيْسَ بِهِ بَأسٌ‏)‏ ‏(‏صَدُوقٌ‏)‏ وَصِلِ

331‏.‏ بِذَاكَ ‏(‏مَأَمُوْناً‏)‏ ‏(‏خِيَاراً‏)‏ وَتَلا *** ‏(‏مَحَلُّهُ الصّدْقُ‏)‏ رَوَوْا عَنْهُ إلى

332‏.‏ الصِّدْقِ مَا هُوَ كذَا شَيْخٌ وَسَطْ *** أَوْ وَسَطٌ فَحَسْبُ أَوْ شَيْخٌ فَقَطْ

333‏.‏ وَ ‏(‏صَالِحُ الْحَدِيْثِ‏)‏ أَوْ ‏(‏مُقَارِبُهْ‏)‏ *** ‏(‏جَيِّدُهُ‏)‏، ‏(‏حَسَنُهُ‏)‏، ‏(‏مُقَارَبُهْ‏)‏

334‏.‏ صُوَيْلِحٌ صَدُوْقٌ انْ شَاءَ اللهْ *** أَرْجُوْ بِأَنْ ‏(‏لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ‏)‏ عَرَاهْ

مراتبُ التعديلِ على أَربعِ أَوْ خَمْسِ طبقاتٍ

فالمرتبةُ الأُولى‏:‏ العُليا منْ ألفاظِ التعديلِ، ولم يذكرُها ابنُ أبي حاتِمٍ، ولا ابنُ الصلاحِ فيما زادهُ عليه؛ وَهِيَ‏:‏ إذا كُرِّرَ لفظُ التوثيقِ المذكورِ في هَذِهِ المرتبةِ الأُولى، إمَّا مَعَ تبايُنِ اللَّفظيْنِ، كقولِهِم‏:‏ «ثَبْتٌ حُجَّةٌ» أو «ثَبْتٌ حَافظٌ» أو «ثقةٌ ثبتٌ»، أو «ثقةٌ مُتْقِنٌ» أو نحوُ ذَلِكَ‏.‏ وإمَّا مَعَ إعادةِ اللَّفظِ الأوَّلِ، كقولِهِم‏:‏ ثقةٌ ثقةٌ، ونحوِها‏.‏ وهذا المرادُ بقولي‏:‏ ‏(‏وَلَوْ أعدتَهُ‏)‏، أي‏:‏ لَوْ أعدْتَ اللَّفظَ الأَولَ بعينِهِ، فهذهِ المرتبةُ أعلى العباراتِ في الرواةِ المقبولينَ، كَمَا قالَهَ الحافظُ أبو عبدِ اللهِ الذهبيُّ في مقدّمةِ كتابِهِ ‏"‏ ميزان الاعتدال ‏"‏‏.‏ وقولي‏:‏ ‏(‏ك‍‏:‏ ثقةٍ ثبتٍ‏)‏، أُشيرُ بالمثالِ إلى أَنَّ المرادَ تكرارُ ألفاظِ هذهِ المرتبةِ الأُولى، لا مُطْلَقُ تكرارِ التوثيقِ‏.‏

المرتبةُ الثانيةُ‏:‏ وهي التي جعلَها ابنُ أبي حاتِمٍ، وتبعَهُ ابنُ الصلاحِ المرتبةَ الأُولى؛ قال ابنُ أبي حاتِمٍ‏:‏ «وَجَدْتُ الأَلفاظَ في الجرحِ والتعديلِ على مراتبَ شَتَّى، فإذا قِيلَ للواحدِ‏:‏ إنَّه ثقةٌ أو مُتْقِنٌ، فهو مِمَّنْ يُحْتَجَّ بحديثهِ»‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «وكذا إذا قيلَ‏:‏ ثَبْتٌ أو حُجَّةٌ‏.‏ وكذا إذا قِيلَ في العَدْلِ‏:‏ إنَّهُ حافظٌ أو ضابطٌ»‏.‏ قالَ الخطيبُ‏:‏ «أرفعُ العباراتِ أَنْ يقال‏:‏ حُجَّةٌ، أو ثقةٌ»‏.‏

المرتبةُ الثالثةُ‏:‏ قولهُم ليسَ بهِ بأْسٌ، أو لا بأْسَ بِهِ، أو صدوقٌ، أو مأمونٌ، أو خِيَارٌ‏.‏ وجَعَلَ ابنُ أبي حاتِمٍ وابنُ الصلاحِ هذهِ المرتبةَ‏:‏ الثانيةَ واقتصرَا فيهَا على قولِهِم‏:‏ صدوقٌ، أو لا بأْسَ به‏.‏ وأَدخلا فيها قولَهُم‏:‏ محلُّهُ الصِّدقُ‏.‏ وقالَ ابنُ أبي حاتِمٍ‏:‏ إنَّ مَنْ قيلَ فيه ذلك، فهو مِمَّنْ يُكْتَبُ حديثُهُ وينظَرُ فيه‏.‏ وأَخَّرْتُ هذه اللفظةَ إلى المرتبةِ التي تلي هذهِ تبعاً لصاحبِ ‏"‏ الميزانِ ‏"‏‏.‏

المرتبةُ الرابعةُ‏:‏ قولُهُم‏:‏ محلُّهُ الصِّدقُ، أو رَوَوْا عنه، أَو إلى الصِّدْقِ ما هو، أو شَيْخٌ وَسَطٌ، أو وَسَطٌ، أو شيخٌ، أو صالحُ الحديثِ، أو مُقارَِبُ الحديثِ- بفتحِ الراءِ وكسرِها- كما حكاهُ القاضِي أبو بكرِ بنُ العربيِّ في ‏"‏ شرحِ الترمذيِّ ‏"‏؛ فلهذا كررتُ هذهِ اللفظةَ في وسطِ البيتِ وآخرِهِ‏.‏ أو جيدُ الحديثِ، أو حَسَنُ الحديثِ، أو صُوَيْلحٌ، أو صدوقٌ إنْ شاءَ اللهُ، أو أَرجو أنَّه ليس به بأْسٌ، واقتصرَ ابنُ أبي حاتِمٍ في المرتبةِ الثالثةِ من كلامِهِ على قولِهِم‏:‏ شيخٌ‏.‏ وقال‏:‏ هو بالمنْزِلةِ التي قبلَها يُكتَبُ حديثُهُ، وَيُنْظَرُ فيه إلاَّ أنَّهُ دونَهُما واقتصرَ في المرتبةِ الرابعةِ على قولِهم‏:‏ صالحُ الحديثِ‏.‏ وقالَ‏:‏ إنَّ مَنْ قيلَ فيه ذلك يُكتَبُ حديثُهُ للاعتَبارِ‏.‏ ثُمَّ ذَكرَ ابنُ الصلاحِ مِنْ ألفاظهِم على غيرِ ترتيبٍ، قولَهُم‏:‏ فلانٌ روَى عنهُ الناسُ، فلانٌ وسطٌ، فلانٌ مقارَبُ الحديثِ، فلانٌ ما أعلَمُ به بأساً‏.‏ قال‏:‏ وهو دونَ قولِهِم‏:‏ لا بَأْسَ بهِ‏.‏

وأمَّا تَمْييزُ الأَلفاظِ التي زدْتُها على كتابِ ابنِ الصلاحِ، فهي المرتبةُ الأُوْلَى بكمالِها، وفي المرتبةِ الثالثةِ قولهُم‏:‏ مأمونٌ خِيَارٌ، وفي المرتبةِ الرابعةِ قولُهُم‏:‏ فلانٌ إلى الصِّدْقِ مَا هُوَ، وشَيْخٌ وسطٌ، وَوَسَطٌ، وجَيِّدُ الحديثِ، وحَسَنُ الحديثِ، وصُوَيلحٌ، وصَدُوقٌ إِنْ شاءَ اللهُ، وأرجو أَنَّهُ لا بَأْسَ به، وهي نظيرُ ما أعلمُ به بأْساً، و الأُوْلَى أَرفَعُ؛ لأَنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ العلمِ حصولُ الرجاءِ بذلكَ‏.‏

335‏.‏ وَ ‏(‏ابْنُ مَعِيْنٍ‏)‏ قال‏:‏ مَنْ أَقُوْلُ‏:‏ ‏(‏لاَ *** بَأْسَ بِهِ‏)‏ فَثِقَةٌ وَنُقِلاَ

336‏.‏ أَنَّ ابْنَ مَهْدِيٍّ أَجَابَ مَنْ سَأَلْ‏:‏ *** أَثِقَةً كَاَنَ أبو خَلْدَةَ‏؟‏ بَلْ

337‏.‏ كَانَ ‏(‏صَدُوْقاً‏)‏ ‏(‏خَيِّراً‏)‏ ‏(‏مَأْمُوْنَا‏)‏ *** الثِّقَةُ ‏(‏الثُّوْرِيُّ‏)‏ لَوْ تَعُوْنَا

338‏.‏ وَرُبَّمَا وَصَفَ ذَا الصِّدْقِ وَسَمْ *** ضَعْفاً بِ ‏(‏صَالِحِ الْحَدِيْثِ‏)‏ إِذْ يَسِمْ

لمَاَّ تقدمَ أَنَّ لأَِلفاظِ التعديلِ مراتِبَ، وأَنَّ قولَهُم‏:‏ «ثقةٌ» أرفعُ مِنْ «ليسَ به بأْسٌ»؛ ذكرَ بعدَهُ أَنَّ كلامَ ابنِ معينٍ يقتضي التسويةَ بينهما، فإنَّ ابنَ أبي خَيْثَمَةَ قال‏:‏ قلتُ ليحيى بنِ مَعِينٍ‏:‏ إنَّكَ تقولُ‏:‏ فلانٌ ليس بِهِ بَأْسٌ، وفلانٌ ضعيفٌ، قالَ‏:‏ إذا قلتُ لكَ‏:‏ ليس به بأْسٌ، فهو ثقةٌ، وإذا قلتُ لكَ‏:‏ هو ضعيفٌ، فليسَ هو بثقةٍ لا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «ليسَ في هذا حكايةُ ذلكَ عن غيرِهِ مِنْ أهلِ الحديثِ، فإِنَّهُ نَسَبَهُ إلى نفسِهِ خاصَّةً، بخلافِ ما ذكرَهُ ابنُ أبي حاتِمٍ»‏.‏

قلتُ‏:‏ ولمْ يَقُلِ ابنُ معينٍ‏:‏ إنَّ قولي‏:‏ ليسَ بهِ بأْسٌ، كقولي‏:‏ ثقةٌ، حَتَّى يلزمَ منه التساوي بينَ اللَّفظَيْنِ، إنَّمَا قالَ‏:‏ إنَّ مَنْ قالَ فيهِ هذا فهو ثقةٌ، وللثقةِ مراتبُ‏.‏ فالتعبيرُ عنهُ بقولهِم‏:‏ ثقةٌ، أرفعُ من التعبيرِ عنهُ بأَنَّهُ لا بأْسَ بِهِ، وإنِ اشتركا في مُطلقِ الثقةِ، واللهُ أعلمُ‏.‏

وفي كلامِ دُحَيْم ما يوافقُ كلامَ ابنِ معينٍ، فإنَّ أبا زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيَّ قالَ‏:‏ قلتُ لعبدِ الرحمنِ بنِ إبراهيمَ‏:‏ ما تقولُ في عليِّ بنِ حَوْشَبٍ الفَزَاريِّ‏؟‏ قالَ‏:‏ لا بأْسَ به‏.‏ قالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ ولِمَ لا تقولُ‏:‏ ثقةٌ، ولا نعلمُ إلا خيراً‏؟‏ قالَ‏:‏ قدْ قلتُ لك‏:‏ إِنَّهُ ثقةٌ‏.‏ ويدلُ على أَنَّ التعبيرَ بثقةٍ أرفعُ؛ أَنَّ عبدَ الرحمنِ ابنَ مَهْدِيٍّ قالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أبو خَلْدةَ فقيلَ لهُ‏:‏ أَكان ثقةً‏؟‏ فقال‏:‏ كانَ صدوقاً، وكان مأموناً، وكان خَيِّراً- وفي روايةٍ وكانَ خياراً- الثقةُ‏:‏ شعبةُ وسفيانُ‏.‏ فانظرْ كيفَ وصفَ أبا خَلْدةَ بما يقتضي القبولَ، ثمَّ ذكرَ أَنَّ هذا اللفظَ يُقالُ لِمِثْلِ شُعبةَ وسفيانَ‏.‏ ونحوُهُ ما حكاهُ الْمَرُّوْذِيُّ قالَ‏:‏ سألتُ أبا عبدِ اللهِ- يعني‏:‏ أحمدَ بنَ حنبلٍ- عبدُ الوهابِ بنُ عطاء ثقةٌ‏؟‏ قالَ‏:‏ تدري ما الثِّقَةُ‏؟‏‏!‏ إِنمّا الثِّقَةُ يَحْيَى بنُ سعيدٍ القطانُ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏لَوْ تَعُوْنَا‏)‏، تكملةٌ للوزنِ، أي لو تحفظُونَ مراتبَ الرواةِ‏.‏ وكانَ ابنُ مَهْدِيٍّ أيضاً- فيما ذكرَ أحمدُ بنُ سِنَانٍ- رُبمَّا جَرَى ذِكْرُ حديثِ الرجلِ فيه ضَعفٌ، وهو رجلٌ صدوقٌ، فيقولُ‏:‏ رجلٌ صالحُ الحديثِ، والله أعلم‏.‏

مَرَاْتِبُ التَّجْرِيْحِ

339‏.‏ وَأَسْوَأُ التَّجْرِيْحِ‏:‏ ‏(‏كَذَّابٌ‏)‏ ‏(‏يَضَعْ‏)‏ *** يَكْذِبُ وَضَّاعٌ وَدَجَّالٌ وَضَعْ

340‏.‏ وَبَعْدَهَا مُتَّهَمٌ بَالْكَذِبِ *** وَ‏(‏سَاقِطٌ‏)‏ وَ ‏(‏هَالِكٌ‏)‏ فَاجْتَنِبِ

341‏.‏ وَذَاهِبٌ مَتْرُوْكٌ اوْ فِيْهِ نَظَرْ *** وَ‏(‏سَكَتُوْا عَنْهُ‏)‏ ‏(‏بِهِ لاَ يُعْتَبَرْ‏)‏

342‏.‏ وَ ‏(‏لَيْسَ بِالثِّقَةِ‏)‏ ثُمَّ ‏(‏رُدَّا *** حَدِيْثُهُ‏)‏ كَذَا ‏(‏ضَعِيْفٌ جِدَّا‏)‏

343‏.‏ ‏(‏وَاهٍ بَمَرَّةٍ‏)‏ وَ ‏(‏هُمْ قَدْ طَرَحُوْا *** حَدِيْثَهُ‏)‏ وَ ‏(‏ارَمِ بِهِ مُطَّرَحُ‏)‏

344‏.‏ ‏(‏لَيْسَ بِشَيءٍ‏)‏ ‏(‏لاَ يُسَاوِي شَيْئَا‏)‏ *** ثُمَّ ‏(‏ضَعِيْفٌ‏)‏ وَكَذَا إِنْ جِيْئَا

345‏.‏ بِمُنْكَرِ الْحَدِيْثِ أَوْ مُضْطَرِبِهْ *** ‏(‏وَاهٍ‏)‏ وَ ‏(‏ضَعَّفُوهُ‏)‏ ‏(‏لاَ يُحْتَجُّ بِهْ‏)‏

346‏.‏ وَبَعْدَهَا ‏(‏فِيْهِ مَقَالٌ‏)‏ ‏(‏ضُعِّفْ‏)‏ *** وَفِيْهِ ضَعفٌ تُنْكِرُ وَتَعْرِفْ

347‏.‏ ‏(‏لَيْسَ بِذَاكَ بالْمَتِيْنِ بِالْقَوِيْ *** بِحُجَّةٍ بِعُمْدَةٍ بِالْمَرْضِيْ‏)‏

348‏.‏ لِلضَّعْفِ مَا هُوْ فيْهِ خُلْفٌ طَعَنُوْا *** فِيْهِ كَذَا ‏(‏سَيِّئُ حِفْظٍ لَيِّنُ‏)‏

349‏.‏ ‏(‏تَكَلَّمُوا فِيْهِ‏)‏ وَكُلُّ مَنْ ذُكِرْ *** مِنْ بَعْدُ شَيْئَاً بِحَدِيْثِهِ اعْتُبِرْ

مراتبُ ألفاظِ التجريحِ على خَمْسِ مراتبَ، وجَعَلَهَا ابنُ أبي حاتِمٍ- وتبِعَهُ ابنُ الصلاحِ- أربعَ مراتبَ‏:‏

المرتبةُ الأُولى‏:‏ وهي أَسوؤُها أَنْ يُقالَ‏:‏ فلانٌ كذَّابٌ، أو يكذِبُ، أو فلانٌ يضعُ الحديثَ، أو وَضَّاعٌ، أو وَضَعَ حديثاً، أو دَجَّالٌ‏.‏ وادخلَ ابنُ أبي حاتِمٍ، والخطيبُ بعضَ ألفاظِ المرتبةِ الثانيةِ في هذهِ‏.‏ قالَ ابنُ أبي حاتِمٍ‏:‏ «إذا قالوا‏:‏ متروكُ الحديثِ، أو ذاهبُ الحديثِ، أو كذَّابٌ، فهو ساقطٌ، لا يُكتَبُ حديثُهُ»‏.‏ وقالَ الخطيبُ‏:‏ أَدونُ العباراتِ أَنْ يُقالَ‏:‏ كذَّابٌ ساقِطٌ، وقد فَرَّقْتُ بين بعضِ هذهِ الألفاظِ تبعاً لصاحبِ ‏"‏ الميزانِ ‏"‏‏.‏

المرتبةُ الثانيةُ‏:‏ فلانٌ مُتَّهَمٌ بالكذبِ، أو الوضعِ، وفلانٌ ساقطٌ، وفلانٌ هالكٌ، وفلانٌ ذاهبٌ، أو ذاهبُ الحديثِ، وفلانٌ متروكٌ، أو متروكُ الحديثِ أو تركوهُ، وفلانٌ فيه نظرٌ، وفلانٌ سكتوا عنه- وهاتانِ العبارتانِ يقولهُمُا البخاريُّ فيمَنْ تركوا حديثَهُ-، فلانٌ لا يُعْتَبَرُ بِهِ، أو لا يُعْتَبَرُ بحديثِهِ، فلانٌ ليسَ بالثقةِ، أو ليسَ بثقةٍ، أو غيرُ ثقةٍ ولا مأمونٍ، ونحوُ ذلك‏.‏

المرتبةُ الثالثةُ‏:‏ فلانٌ رُدَّ حديثُهُ، أو رَدُّوا حديثَهُ، أو مردودُ الحديثِ، وفلانٌ ضعيفٌ جِدَّاً، وفلانٌ واهٍ بمرّةٍ، وفلانٌ طرحوا حديثَهُ، أو مُطرَّحٌ، أو مطرَّحُ الحديثِ، وفلانٌ أرمِ بِهِ، وفلانٌ ليس بشئٍ، أو لا شئَ، وفلانٌ لا يُسَاوي شيئاً، ونحوُ ذلك‏.‏ وكلُّ مَنْ قِيْلَ فيهِ ذلكَ من هذهِ المراتبِ الثلاثِ، لا يُحْتَجُّ بهِ، ولا يُسْتَشْهَدُ بِهِ، ولا يُعْتَبَرُ بِهِ‏.‏

المرتبةُ الرابعةُ‏:‏ فلانٌ ضعيفٌ، فلانٌ مُنكَرُ الحديثِ، أو حديثُهُ منكرٌ، أو مضطربُ الحديثِ، وفلانٌ واهٍ، وفلانٌ ضَعَّفُوهُ، وفلانٌ لا يُحْتَجُّ بِهِ‏.‏

المرتبةُ الخامسة‏:‏ فلانٌ فيه مقالٌ، فلانٌ ضُعِّفَ، أو فيه ضَعْفٌ، أو في حديثِهِ ضَعْفٌ، وفلانٌ تَعْرِفُ وتُنْكِرُ، وفلانٌ ليس بذاك، أو بذاك القويِّ وليس بالمتينِ، وليس بالقويِّ، وليس بحُجَّةٍ، وليسَ بِعُمْدَةٍ، وليس بالمرضِيِّ وفلانٌ للضَّعْفِ ما هو، وفيه خُلْفٌ، وطعنُوا فيهِ، أو مَطْعُوْنٌ فيه، وَسَيِّئُ الحِفْظِ، وَلَيِّنٌ، أو لَيِّنُ الحديثِ، أو فيه لِيْنٌ، وتكلَّمُوا فيهِ، ونحوُ ذلكَ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏وَكُلُّ مَنْ ذُكِرْ مِنْ بَعْدُ شَيْئَا‏)‏، أي‏:‏ مِنْ بعد قولي‏:‏ ‏(‏لا يُساوي شيئاً‏)‏، فإنَّهُ يُخَرَّجُ حديثُه للاعتبارِ، وهمُ المذكورون في المرتبةِ الرابعةِ والخامسةِ‏.‏

قالَ ابنُ أبي حاتِمٍ‏:‏ إذا أجابوا في رَجُلٍ بأنه ليِّنُ الحديثِ، فهو مِمَّنْ يُكْتَبُ حديثُهُ، وينظرُ فيه اعتباراً‏.‏ وإذا قالوا‏:‏ ليسَ بقويٍّ‏:‏ فهو بمنْزِلتِهِ في كَتْبِ حديثِهِ، إلاَّ أنَّهُ دونَهُ‏.‏ وإذا قالوا‏:‏ ضعيفُ الحديثِ، فَهُوَ دونَ الثاني، لا يُطْرحُ حديثُهُ، بَلْ يُعْتَبَرُ بِهِ‏.‏ وَقَدْ تقدَّمَ في كلامِ ابنِ مَعِينٍ ما قدْ يخالفُ هَذَا مِنْ أَنَّ مَنْ قالَ فِيْهِ‏:‏ ضعيفٌ، فليس بثقةٍ، لا يُكتَبُ حديثُهُ‏.‏ وتقدَّمَ أَنَّ ابنَ الصلاحِ أجابَ عَنْهُ‏:‏ بأَنَّهُ لَمْ يَحْكِهِ عن غيرِهِ من أهلِ الحديثِ‏.‏ وسألَ حمزةُ السَّهْمِيُّ الدَّارَقطنيَّ‏:‏ أَيْشٍ تريدُ إذا قلْتَ‏:‏ فلانٌ لينٌ‏؟‏ قال‏:‏ لا يكونُ ساقطاً متروكَ الحديثِ، ولكنْ مجروحاً بشيءٍ لا يُسْقِطُ عن العدالةِ‏.‏

وأما تَمْييزُ ما زدْتُهُ من ألفاظِ الجرحِ على ابنِ الصلاحِ، فهي‏:‏ فلانٌ وضَّاعٌ، ويضعُ، ووضَعَ، ودجَّالٌ، ومتَّهمٌ بالكذِبِ، وهالكٌ، وفيه نظرٌ، وسَكَتُوا عنهُ، ولا يُعتبرُ به، وليس بالثقةِ، ورُدَّ حديثُهُ، وضعيفٌ جِدَّاً، وواهٍ بمرّةٍ، وطرحُوا حديثَهُ، وارمِ بِهِ، ومطَرَّحٌ، ولا يُسَاوِي شيئاً، ومنكرُ الحديثِ وواهٍ، وضعفوهُ، وفيهِ مقالٌ، وضُعِّفَ، وتَعْرِفُ وتُنكرُ، وليس بالمتينِ، وليسِ بحُجَّةٍ، وليس بِعُمْدَةٍ، وليسَ بالمَرْضِيِّ، وللضَّعْفِ ما هوَ، وفيهِ خُلْفٌ، وطعنوا فيه، وسَيِّئُ الحفظِ، وتَكَلَّمُوا فيهِ‏.‏

فهذهِ الألفاظُ لم يذكُرْهَا ابنُ أبي حاتِمٍ، ولا ابنُ الصلاحِ، وهي موجودةٌ في كلامِ أئَمةِ أهلِ هذا الشأَنِ، وأشرتُ إلى ذلك بقولي‏:‏ ‏(‏وزدْتُ ما في كَلاَمِ أهلِهِ وَجدْتُ‏)‏‏.‏

‏[‏تَحَمُّلُ الْحَدِيْثِ‏]‏

مَتَى يَصِحُّ تَحَمُّلُ الْحَدِيْثِ، أَوْ يُسْتَحَبُّ‏؟‏

350‏.‏ وَقَبِلُوا مِنْ مُسْلِمٍ تَحَمُّلاَ *** فِي كُفْرِهِ كَذَا صَبِيٌّ حُمِّلاَ

351‏.‏ ثُمَّ رَوَى بَعْدَ الْبُلُوْغِ وَمَنَعْ *** قَوْمٌ هُنَا وَرُدَّ ‏(‏كَالسِّبْطَيْنِ‏)‏ مَعْ

352‏.‏ إِحْضَارِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِلصِّبْيَانِ ثُمّْ *** قَبُوْلُهُمْ مَا حَدَّثُوا بَعْدَ الْحُلُمْ

مَنْ تحمَّلَ قبلَ دخولهِ في الإسلامِ، وروى بعدَهُ قُبِلَ ذلك منهُ‏.‏ مثالهُ‏:‏ حديثُ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ المتفقُ على صحتِهِ‏:‏ أَنَّهُ سمعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقرأُ في المغربِ بالطُّوْرِ‏.‏ وكانَ جاءَ في فِدَاءِ أُسَارَى بدرٍ قَبلَ أَنْ يُسْلِمَ‏.‏ وفي روايةٍ للبُخَاريِّ‏:‏ وذلكَ أَوَّلُ ما وقرَ الإيمانُ في قلبي‏.‏ وكذلك تُقْبلُ روايةُ مَنْ سمعَ قبلَ البلوغِ، وَرَوَى بعدَهُ‏.‏ ومنعَ مِنْ ذلكَ قومٌ هنا، أي‏:‏ في مسألةِ الصبيِّ، وهوَ خطأٌ مردودٌ عليهم‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏كالسِّبْطَيْنِ‏)‏، أي‏:‏ كروايةِ الحَسنِ والحُسينِ، وغيرهِما، مِمَّنْ تَحَمَّلَ في حالِ صباهُ، كعبدِ اللهِ بنِ الزُّبيرِ، والنُّعمانِ بنِ بَشِيرٍ، وعبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ، والسائبِ بنِ يزيدَ، والمِسْوَرِ بنِ مَخْرَمَةَ، ونحوِهم‏.‏

وَقبِلَ الناسُ روايتَهُم مِنْ غيرِ فَرْقٍ بينَ ما تحمَّلُوهُ قبلَ البلوغِ وبعدَهُ‏.‏ وكذلك كانَ أَهلُ العلمِ يُحضِرُونَ الصِّبيانَ مجالسَ الحديثِ وَيَعْتَدُّوْنَ بروايتِهِمْ بذلكَ بعدَ البلوغِ‏.‏

353‏.‏ وَطَلَبُ الْحَدِيْثِ فِي الْعِشْرِيْنِ *** عِنْدَ ‏(‏الزُّبَيْرِيِّ‏)‏ أَحَبُّ حِيْنِ

354‏.‏ وَهْوَ الَّذِي عَلَيْهِ ‏(‏أَهْلُ الْكُوْفَهْ‏)‏ *** وَالْعَشْرُ فِي ‏(‏الْبَصْرَةِ‏)‏ كَالْمَألُوْفَهْ

355‏.‏ وَفِي الثَّلاَثِيْنَ ‏(‏لأَهْلِ الشَّأْمِ‏)‏ *** وَيَنْبَغِي تَقْيِيْدُهُ بِالْفَهْمِ

356‏.‏ فَكَتْبُهُ بالضَّبْطِ، والسَّمَاعُ *** حَيْثُ يَصِحُّ، وَبِهِ نِزَاعُ

357‏.‏ فَالْخَمْسُ لِلْجُمْهُورِ ثُمَّ الحُجَّهْ *** قِصَّةُ ‏(‏مَحْمُوْدٍ‏)‏ وَعَقْلُ الْمَجَّهْ

358‏.‏ وَهْوَ ابْنُ خَمْسَةٍ، وَقِيْلَ أَرْبَعَهْ *** وَلَيْسَ فِيْهِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَهْ

359‏.‏ بَلِ الصَّوَابُ فَهْمُهُ الْخِطَابَا *** مُمَيِّزاً وَرَدُّهُ الْجَوَابَا

حكى أبو محمَّدِ بنُ خَلاَّدٍ الرَّامَهُرْمُزِيُّ في كتابهِ ‏"‏ المحدِّثِ الفاصلِ ‏"‏، عن أبي عبدِ اللهِ الزُّبيريِّ من الشافعيةِ، واسمُهُ الزُّبيرُ بنُ أحمدَ، أَنَّهُ قالَ‏:‏ يُستحبُ كَتْبُ الحديثِ في العشرينِ؛ لأَنَّها مُجتمعُ العقلِ، قالَ‏:‏ وأحبُّ أَنْ يَشْتَغِلَ دونَها بحفِظِ القرآنِ، والفرائِضِ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏في العشرينِ‏)‏- بكسر النون- على لغةٍ كقولِ الشاعرِ‏:‏

……………… وَقَدْ جاوزْتُ حَدَّ الأربعِيْنِ

وقالَ موسى بنُ إسحاقَ‏:‏ كانَ أهلُ الكوفةِ لا يُخرِجُونَ أولادَهُم في طلبِ الحديثِ صِغَاراً، حَتَّى يستكمِلوا عشرينَ سنةً‏.‏ وقالَ موسى بنُ هارونَ الحمَّالِ‏:‏ أهلُ البصرةِ يكتبُوْنَ لعشرِ سنينَ، وأهلُ الكوفةِ لعشرينَ، وأهلُ الشَّامِ لثلاثينَ‏.‏

وقوليِ‏:‏ ‏(‏وَيَنْبَغِي تَقْييدُهُ‏)‏، أي‏:‏ طلبُ الحديثِ وكتابتُهُ بالضبطِ، وسماعُهُ مِنْ حيثُ يصحُّ‏.‏ فقولهُ‏:‏ ‏(‏والسَّماعُ‏)‏، مرفوعٌ عطفاً على قولهِ‏:‏ ‏(‏فكتبهُ‏)‏‏.‏ قال ابنُ الصلاحِ‏:‏ «وينبغي بعدَ أَنْ صار الملحوظُ إبقاءَ سلسلةِ الإسنادِ أن يُبَكَّرَ بإسماعِ الصغيرِ في أَولِ زمانٍ يَصِحُّ فيهِ سماعُهُ‏.‏ وأمَّا الاشتغالُ بِكَتْبِهِ الحديثَ وتحصيلِهِ، وضبطِهِ، وتقييدِهِ، فمن حيثُ يتأهَّلُ لذلكَ ويستعدُ لهُ، وذلكَ يختلفُ باختلافِ الأشخاصِ، وليس ينحصرُ في سِنٍّ مخصوصٍ»‏.‏ وقولي‏:‏ ‏(‏وَبِهِ نِزَاعٌ‏)‏، أي‏:‏ وفي الوقتِ الذي يصحُ فيه السماعُ نزاعٌ بين العلماءِ، وهي أربعةُ أقوالٍ‏:‏ أحدُها‏:‏ ما ذهبَ إليه الجمهورُ أَنَّ أقلَّهُ خمسُ سنينَ‏.‏ وحكاهُ القاضي عياضٌ في ‏"‏ الإلماع ‏"‏ عن أَهلِ الصنعةِ‏.‏ وقالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ هو الذي استقرَّ عليه عملُ أهلِ الحديثِ المتأخِّرينَ، وحجتُهُم في ذلكَ ما رواهُ البخاريُّ في صحيحِهِ والنسائيُّ وابنُ ماجه، من حديثِ محمودِ بنِ الرَّبيعِ قالَ‏:‏ عَقَلْتُ مِنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَجَّةً مَجَّهَا في وَجْهِي مِنْ دلوٍ وأنا ابنُ خمسِ سنينَ‏.‏ بَوَّبَ عليهِ البخاريُّ‏:‏ متى يصحُّ سماعُ الصغيرِ‏؟‏ قالَ ابنُ عبدِ البَرِّ‏:‏ حَفِظَ ذلكَ عنهُ وهوَ ابنُ أربعِ سنينَ، أو خمسِ سنينَ‏.‏

وأثبْتُ هاءَ التأنيثِ في خمسةٍ أو أربعةٍ لإرادةِ الأعوامِ‏.‏ وأثبْتُ مع حذفِ المعدودِ عَلَى إِحدى اللُّغتيْنِ‏.‏ وليسَ في حديثِ محمود سُنَّةٌ مُتَّبعةٌ، إذ لا يلزمُ منه أَنْ يُمَيِّزَ كلُّ أَحدٍ تمييزَ محمودٍ، بلْ قد ينقصَ عنه وقدْ يزيدُ‏.‏ ولا يلزمُ منه ألاَّ يعقِلَ مثلَ ذلكَ وسِنُّهُ أَقلُ من ذلكَ، ولا يلزمُ مِنْ عَقْلِ المَجَّةِ أَنْ يَعْقِلَ غيرَ ذلك مما يسمَعُهُ‏.‏ والقولُ الثاني من الخلافِ في صحةِ سماعِ الصغيرِ اعتبارُ تمييزِهِ على الخصوصِ، فمتى كانَ يفهمُ الخطابَ، ويردُّ الجوابَ؛ كان سماعُهُ صحيحاً، وإنْ كانَ ابْنَ أقلّ مِنْ خمسٍ وإنْ لم يكنْ كذلك لم يصحَّ، وإنْ زادَ على الخمسِ‏.‏ وهذا هو الصوابُ، وسيأتي القولانِ الآخرانِ في الأبياتِ التي تلي هذا‏.‏

360‏.‏ وَقِيْلَ‏:‏ ‏(‏لابْنِ حَنْبَلٍ‏)‏ فَرَجُلُ *** قال‏:‏ لِخَمْسَ عَشْرَةَ التَّحَمُّلُ

361‏.‏ يَجُوْزُ لاَ فِي دُوْنِهَا، فَغَلَّطَهْ *** قال‏:‏ إذا عَقَلَهُ وَضَبَطَهْ

362‏.‏ وَقِيْلَ‏:‏ مَنْ بَيْنَ الْحِمَارِ وَالْبَقَرْ *** فَرَّقَ سَامِعٌ، وَمَنْ لاَ فَحَضَرْ

363‏.‏ قال‏:‏ بِهِ الَحْمَّالُ، وابْنُ الْمُقْرِيْ *** سَمَّعَ لاِبْنِ أَرْبَعٍ ذِي ذُكْرِ

وممَّا يدلُّ على اعتبارِ التمييزِ في صحةِ سماعِ الصبيِّ، قولُ أحمدَ وقدْ سُئِلَ‏:‏ مَتَى يصحُّ سماعُ الصبيِّ للحديثِ‏؟‏ فقالَ‏:‏ إذا عَقَلَ وَضَبَطَ‏.‏ فَذُكرَ لهُ عَنْ رجلٍ أنَّهُ قالَ‏:‏ لا يجورُ سماعُهُ حَتَّى يكونَ له خمسَ عَشْرَةَ سنةً، فأنكرَ قولَهُ، وقالَ‏:‏ بئسَ القولُ‏.‏ وهذا هو القولُ الثالثُ‏.‏

والقولُ الرابعُ‏:‏ وهو قولُ موسى بنِ هارونَ الحمَّالِ، وقد سُئِلَ متى يجوزُ سماعُ الصبيِّ للحديثِ‏؟‏ فقالَ‏:‏ إذا فَرَّقَ بَيْنَ البقرةِ والدابَّةِ، وفي روايةٍ بَيْنَ البَقَرَةِ والحِمَاْرِ‏.‏ وقولي‏:‏ ‏(‏وابنُ الْمُقْرِيْ‏)‏ هُوَ مبتدأٌ ليسَ معطوفاً عَلَى الحمَّالِ‏.‏ والذي سمعَ لهُ ابنُ المقرئ هُوَ الْقَاضِي أبو محمدٍ عبدُ اللهِ بنُ محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ اللَّبانِ الأصبهانيُّ‏.‏ فروينا عَنْ الخطيبِ قالَ‏:‏ سمعتُهُ يقولُ‏:‏ حفِظْتُ القرآنَ ولي خمسُ سنينَ، وأُحْضِرْتُ عِنْدَ أبي بكرِ بنِ المقري، ولي أربعُ سنينَ، فأرادوا أن يُسَمِّعُوا لي فِيْمَا حَضَرْتُ قراءتَهُ، فَقَالَ بعضُهُم‏:‏ إنَّهُ يصغرُ عَنْ السماعِ‏!‏ فقالَ لي ابنُ المقرئ‏:‏ اقرأْْ سورةَ «الكافرون»، فقرأتُها‏.‏ فقالَ‏:‏ اقرأْ سورةَ «التكويرِ»، فقرأتها‏.‏ فقالَ لي غيرُهُ‏:‏ اقرأْ سورةَ و «المرسلاتِ»، فقرأتها، وَلَمْ أَغلطْ فِيْهَا‏.‏ فَقَالَ ابنُ المقرئ‏:‏ سمِّعوا لَهُ والعُهْدَةُ عليَّ‏.‏ وقالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ بَلَغَنَا عنْ إبراهيمَ بنِ سعيدٍ الْجَوْهَرِيِّ، قالَ‏:‏ رأيتُ صبيَّاً ابنَ أربعِ سنينَ، قد حُمِلَ إلى المأمونِ، قد قَرأَ القرآنَ، ونظرَ في الرأيِ، غيرَ أَنّهُ إذا جاع يَبْكي‏!‏ والذي يَغْلبُ على الظنِّ عدمُ صحةِ هذهِ الحكايةِ، وقد رواها الخطيبُ في الكفايةِ بإسنادِهِ، وفي سَنَدِها أحمدُ بنُ كاملٍ القاضي، وكان يعتمدُ على حفظِهِ فيهم‏.‏ وقال الدَّارقطنيُّ‏:‏ كانَ متساهلاً‏.‏

أَقْسَاْمُ التَّحَمُّلِ

وَأَوَّلُهَا‏:‏ سَمَاْعُ لَفْظِ الشَّيْخِ

364‏.‏ أَعْلَى وُجُوْهِ الأَخْذِ عِنْدَ الْمُعْظَمِ *** وَهْيَ ثَمَانٍ‏:‏ لَفْظُ شَيْخٍ فَاعْلَمِ

365‏.‏ كتَاباً او حِفْظاً وَقُلْ‏:‏ ‏(‏حَدَّثَنَا‏)‏ *** ‏(‏سَمِعْتُ‏)‏، أَوْ ‏(‏أَخْبَرَنَا‏)‏، ‏(‏أَنْبَأَنَا‏)‏

366‏.‏ وَقَدَّمَ ‏(‏الْخَطِيْبُ‏)‏ أَنْ يَقُوْلاَ‏:‏ *** ‏(‏سَمِعْتُ‏)‏ إِذْ لاَ يَقْبَلُ التَّأْوِيْلاَ

367‏.‏ وَبَعْدَهَا ‏(‏حَدَّثَنَا‏)‏، ‏(‏حَدَّثَنِي‏)‏ *** وَبَعْدَ ذَا ‏(‏أَخْبَرَنَا‏)‏، ‏(‏أَخْبَرَنِي‏)‏

368‏.‏ وَهْوَ كَثْيِرٌ وَ ‏(‏يَزِيْدُ‏)‏ اسْتَعْمَلَهْ *** وَغَيْرُ وَاحِدٍ لِمَا قَدْ حَمَلَهْ

369‏.‏ مِنْ لَفْظِ شَيْخِهِ، وَبَعْدَهُ تَلاَ‏:‏ *** ‏(‏أَنْبَأَنَا‏)‏، ‏(‏نَبَّأَنَا‏)‏ وَقَلَّلاَ

وجوهُ الأخذِ للحديثِ وتحمُّلهِ عن الشيوخِ ثمانيةٌ‏.‏ فأرفعُ الأقسامِ وأعلاهَا عندَ الأكثرينَ‏:‏ السماعُ مِنْ لفظِ الشيخِ، سواءٌ حَدَّثَ من كتابِهِ أو حفظهِ بإملاءٍ أو غيرِ إملاءٍ‏.‏ وقولي‏:‏ ‏(‏وقُلْ‏:‏ حَدَّثَنَا‏)‏، أي‏:‏ وقُلْ في حالةِ الأداءِ لما سمعتَهُ هكذا من لفْظِ الشيخِ‏.‏ قال القاضي عياضٌ‏:‏ لا خلافَ أَنَّهُ يجوزُ في هذا أن يقولَ السامعُ منهُ‏:‏ حَدَّثَنَا، وأخبرنا، وأنبأنا، وسمعتُ فلاناً يقولُ، وقالَ لنا فلانٌ، وذكرَ لنا فلانٌ‏.‏ وقالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ في هذا نظرٌ، وينبغي فيما شاعَ استعمالُهُ من هذهِ الألفاظِ مخصوصاً بما سمعَ من غيرِ لفظِ الشيخِ أن لا يُطْلَقَ فيما سَمِعَ من لفظهِ، لما فيهِ من الإيهامِ، والإلباسِ‏.‏ قلت‏:‏ ولم أذكرْ هذا في النَّظْمِ؛ لأنَّ القاضي حكى الإجماعَ على جوازهِ، وهو مُتَّجِهٌ، ولا شكَ أَنَّهُ لا يجبُ على السامعِ أَنْ يُبَيِّنَ هل كان السماعُ من لفظِ الشيخِ أو عَرْضَا‏؟‏ نَعَمْ، إطلاقُ أنبأنا بعد أنِ اشتهَرَ استعمالُها في الإجازةِ يؤدي إلى أَنْ يُظنَّ بما أدَّاهُ بها أنَّهُ إجازةٌ فيسقطُهُ مَنْ لا يحتجُ بالإجازةِ فينبغي أن لا تُستعملَ في المتصلِ بالسماعِ، لما حدثَ من الاصطلاحِ‏.‏ وقال الخطيبُ‏:‏ أرفعُ العباراتِ‏:‏ سمعتُ، ثُمَّ حَدَّثَنَا وحَدَّثَني، ثُمَّ أخبرنا، وهو كثيرٌ في الاستعمالِ، ثم أنبأنا ونبأنا، وهو قليلٌ في الاستعمالِ‏.‏ وقال أحمدُ بنُ صالحٍ‏:‏ أخبرنا وأنبأنا دونَ حَدَّثَنَا‏.‏ وقال أحمدُ بنُ حنبلٍ‏:‏ أخبرنا أسهلُ من حَدَّثَنَا، حَدَّثَنَا شديدٌ‏.‏ واستدلَ الخطيبُ على ترجيحِ سمعتُ بأَنَّهُ لا يكادُ أحدٌ يقولُها في أَحاديثِ الإجازةِ، والمكاتبةِ، ولا في تَدْليسِ ما لم يسمعْهُ‏.‏ واستعملَ بعضهُمُ حَدَّثَنَا في الإجازةِ، ورُوِيَ عن الحسن، قال‏:‏ حَدَّثَنَا أبو هريرة ويتأوَّلُ‏:‏ حَدَّثَ أهلَ المدينةِ والحسنُ بها‏.‏ قال ابنُ دقيقِ العيدِ‏:‏ وهذا إذا لمْ يَقُمْ دليلٌ قاطعٌ على أَنَ الحسنَ لم يسمعْ من أبي هريرةَ لم يَجُزْ أَنْ يُصَارَ إليه‏.‏ قلتُ‏:‏ قال أبو زرعةَ، وأبو حاتِم‏:‏ مَنْ قال عن الحسن حَدَّثَنَا أبو هريرةَ، فقد أخطأ‏.‏ انتهى‏.‏ والذي عليهِ العملُ أَنَّهُ لم يَسْمَعْ منه شيئاً‏.‏ قال أيوبُ وبَهْزُ بنُ أسدٍ ويونسَ بنُ عبيدٍ وأبو زُرْعَةَ وأبو حاتِمٍ والترمذيُ والنسائيُ والخطيبُ، وغَيْرُهُم‏.‏ وزاد يونُسُ ما رآه قَطُّ‏.‏ وقيل‏:‏ سمعَ منه، وهو ضعيفٌ‏.‏ وقال ابنُ القطانِ‏:‏ واعلمْ أنَّ حَدَّثَنَا ليستْ بنصٍ في أَنَّ قائِلَها سمعَ، ففي مسلمٍ حديثُ الذي يقتلُهُ الدَّجَّالُ، فيقولُ‏:‏ أنتَ الدَّجَّالُ الذي حَدَّثَنَا بهِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قَالَ‏:‏ ومعلومٌ أَنَّ ذَلِكَ الرجلَ متأخِّرُ الميقاتِ‏.‏ انتهى‏.‏

فيكونُ مرادُهُ حَدَّثَ أُمَّتَهُ وَهُوَ مِنْهُمْ‏.‏ وَقَدْ قالَ مَعْمَرٌ‏:‏ إِنَّهُ الخضرُ، فحينئذٍ لا مانعَ من سماعهِ‏.‏ وقولي‏:‏ ‏(‏ويزيدُ استعمَلَه‏)‏، أي‏:‏ ويزيدُ بنُ هارونَ وغيرُ واحدٍ استعملَ أخبرَنا فيما سَمِعَهُ من لفظِ الشيخِ‏.‏ قالَ محمدُ بنُ أبي الفوارسِ‏:‏ هُشَيْمُ ويزيدُ بنُ هارونَ وعبدُ الرزاقِ؛ لا يقولونَ إلا أخبرنا، فإذا رأيتَ حَدَّثَنَا فهو مِنْ خطأ الكاتبِ‏.‏ وحكى الخطيبُ‏:‏ أَنَّ مِمَّنْ كان يفعلُ ذلكَ أيضاً‏:‏ حمَّادَ بنَ سلمةَ وابنَ المباركِ وهُشيماً وعبيدَ اللهِ بنَ موسى وعمرَو بنَ عَوْنٍ ويحيى بنَ يحيى التَّمِيميَّ وابنَ رَاهَوَيْهِ وأحمدَ بنَ الفراتِ ومحمّدَ ابنَ أيوبَ الرازيَّيْنِ‏.‏ وذُكِرَ عَنْ محمدِ بنِ رافعٍ أَنَّ عبدَ الرزاقِ كانَ يقولُ‏:‏ أخبرنا، حتى قدمَ أحمدُ وإسحاقُ فقالا له‏:‏ قُلْ حَدَّثَنَا، مما سمعتَ معَ هَؤلاءِ، قالَ‏:‏ حَدَّثَنَا‏.‏ وما قبل ذلكَ كانَ يقولُ‏:‏ أخبرنا‏.‏ وقالَ ابنُ الصلاحِ بعد حكايةِ كلامِ ابنِ أبي الفوارسِ‏:‏- قُلتُ‏:‏- وكان هذا كلُّهُ قبلَ أَنْ يشيعَ تخصيصُ أخبرنا بما قُرئَ على الشيخِ‏.‏

370‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏قَالَ لَناَ‏)‏ وَنَحْوُهَا *** كَقُوْلِهِ‏:‏ ‏(‏حَدَّثَنَا‏)‏ لَكِنَّهَا

371‏.‏ الْغَالِبُ اسْتِعْمَالُهَا مُذَاكَرَهْ *** وَدُوُنَهَا ‏(‏قَالَ‏)‏ بِلاَ مُجَارَرَهْ

372‏.‏ وَهْيَ عَلى السَّمَاعِ إِنْ يُدْرَ اللُّقِيْ *** لاَ سِيَّمَا مَنْ عَرَفُوْهُ فِي الْمُضِيْ

373‏.‏ أنْ لاَ يَقُوْلَ ذَا بِغَيْرِ مَا سَمِعْ *** مِنْهُ ‏(‏كَحَجَّاجٍ‏)‏ وَلَكِنْ يَمْتَنِعْ

374‏.‏ عُمُوْمُهُ عِنْدَ الْخَطيْبِ وَقُصِرْ *** ذَاكَ عَلى الَّذِي بِذَا الوَصْفِ اشْتُهِرْ

قولُ الراوي‏:‏ قالَ لنا فلانٌ، أو قالَ لي، أو ذَكَرَ لنا، أو ذَكَرَ لِي، ونحوُ ذلك؛ هو من قبيلِ قولِهِ‏:‏ حَدَّثَنَا فلاَنٌ في أَنَّهُ متصلٌ‏.‏ لكنَّهُم كثيراً ما يستعملونَ هذا فيما سمعوهُ في حالةِ المذاكرةِ‏.‏ قال ابنُ الصلاحِ‏:‏ إنه لائقٌ بهِ وهو بهِ أشبهُ مِنْ حَدَّثَنَا‏.‏ وخالف أبو عبدِ الله بنُ مَنْدَه في ذلك، فقالَ فيما رويناهُ في جزءٍ له‏:‏ أَنَّ البخارِيَّ حيثُ قال‏:‏ قالَ لي فلانٌ، فهو إجازةٌ، وحيثُ قال‏:‏ قالَ فلانٌ، فهو تدليسٌ، ولم يقبلِ العلماءُ كلامَهُ هذا، وسيأتي كلامُ ابنِ حمْدَانَ بما يخالفُ هذا في كيفيةِ الروايةِ بالمناولةِ والإجازةِ، حيث ذكرَهُ ابنُ الصلاحِ‏.‏ ولما ذكرَ أبو الحسنِ بنُ القطانِ تدليسَ الشيوخِ؛ قال‏:‏ وأَما البخاريُّ فذلك عنه باطلٌ‏.‏

ودون هذهِ العبارةِ قولُ الراوي‏:‏ قال فلانٌ وذكرَ فلانٌ منِ غيرِ ذِكْرِ الجارِ والمجرورِ، وهذا معنى قولي‏:‏ ‏(‏بلا مجارَرَه‏)‏، وهو براءَيْنِ، وهذهِ أوضعُ العباراتِ، كما قالَ ابنُ الصلاحِ، ومع ذلك فهي محمولةٌ على السماعِ بالشرطِ المذكورِ في الْمُعَنْعَنِ، وهو إذا عُلِمَ اللُّقِيُّ، أي‏:‏ وسَلِمَ الراوي من التدليسِ، كما اشترطَ هناكَ وإِنْ لم يذكرْ هنا تبعاً لابنِ الصلاحِ، لا سِيِّما مَنْ عُرِفَ من حالِهِ أَنَّهُ لا يَرْوي إِلا ما سمعَهُ‏.‏ كحجَّاجِ بنِ محمدٍ الأعورِ، فروى كُتبَ ابنِ جُرَيْجٍ بلفظِ‏:‏ قالَ ابنُ جريجٍ، فحملَها الناسُ عنه واحتَجُّوا بها، هذا هو المحفوظُ المعروفُ، وخصَّصَ الخطيبُ ذلك بمَنْ عُرِفَ من عادتهِ مثلُ ذلك، فأمَّا مَنْ لا يُعْرَفُ بذلك، فلا يحملِهُ على السماعِ‏.‏

الثَّاْنِي‏:‏ القِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ

375‏.‏ ثُمَّ الْقِرَاءَةُ الَّتِي نَعَتَهَا *** مُعْظَمُهُمْ عَرْضَاً سَوَا قَرَأْتَهَا

376‏.‏ مِنْ حِفْظٍ او كِتَابٍ او سَمِعْتَا *** والشَّيْخُ حَافِظٌ لمِاَ عَرَضْتَا

377‏.‏ أولاَ، وَلَكِنْ أَصْلُهُ يُمْسِكُهُ *** بِنَفْسِهِ، أو ثِقَةٌ مُمْسِكُهُ

378‏.‏ قُلْتُ‏:‏ كَذَا إنْ ثِقَةٌ مِمَّنْ سَمِعْ *** يَحْفَظُهُ مَعَ اسْتِماَعٍ فَاقْتَنِعْ

ثُمَّ القسمُ الثاني منْ أَقسامِ الأخذِ والتحمُّلِ‏:‏ القراءةُ على الشيخِ، ويسمِّيها أكثرُ المحدِّثينَ عَرْضَاً، بمعنى أَنَّ القارئ يعرضُ على الشيخِ ذلكَ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏سَوَا‏)‏- بفتحِ السِّيْنِ وقُصِرَ للضَّرُوْرَةِ- أي‏:‏ سواءٌ قرأتَ بنفسكَ على الشيخِ من حِفْظِكَ أو من كتابٍ أو سمعتَ بقراءةِ غيرِكَ من كتابٍ أو حفظه أيضاً، وسواءٌ كانَ الشَّيخُ حافظاً لما عرضْتَ أَمْ عَرَضَ غيرك عليهِ، أو غيرَ حافظٍ له، ولكنْ يُمسِكُ أصلَهُ هو أو ثقةٌ غيُره خلافاً لبعضِ الأُصوليينَ فيما إذا لم يُمْسِكْ أصلَهُ بنفسِهِ على ما سيأتي في التفريعاتِ التي بعدَ هذهِ الترجمةِ‏.‏ وهكذا إنْ كان ثقةٌ من

السامعينَ يحفظُ ما يُقْرَأُ على الشيخِ، والحافظُ لذلك مُستمِعٌ لما يُقْرَأُ غيرُ غافلٍ عنهُ فذاكَ كافٍ أيضاً‏.‏ ولم يذكرِ ابنُ الصلاحِ هذهِ المسألة الأخيرةَ‏.‏ والحكمُ فيها مُتَّجِهٌ، ولا فرقَ بينَ إمساكِ الثِّقَةِ لأصلِ الشيخِ وبين حفظِ الثقةِ لما يقرأُ وقد رأيتُ غيرَ واحدٍ من أَهلِ الحديثِ وغيرِهم اكتفى بذلك سواءٌ كانَ الحافظُ هو الذي يقرأُ أو غيرُه‏.‏

379‏.‏ وَأَجْمَعوُا أَخْذَاً بِهَا، وَرَدُّوا *** نَقْلَ الخِلاَفِ، وَبِهِ مَا اعْتَدُّوا

380‏.‏ وَالخَلْفُ فِيْهَا هَلْ تُساوي الأوَّلاَ *** أو دُوْنَهُ أو فَوْقَهُ‏؟‏ فَنُقِلاَ

381‏.‏ عَنْ ‏(‏مَالِكٍ‏)‏ وَصَحبْهِ وَمُعْظَمِ *** ‏(‏كُوْفَةَ‏)‏ وَ ‏(‏الحِجَازِ أَهْلِ الْحَرَمِ‏)‏

382‏.‏ مَعَ ‏(‏البُخَارِيِّ‏)‏ هُمَا سِيَّانِ *** وَ ‏(‏ابْنُ أبِي ذِئْبٍ‏)‏ مَعَ ‏(‏النُّعْمَانِ‏)‏

383‏.‏ قَدْ رَجَّحَاالْعَرَضَ وَعَكْسُهُ أَصَحّْ *** وَجُلُّ ‏(‏أَهْلِ الشَّرْقِ‏)‏ نَحْوَهُ جَنَحْ

أي‏:‏ وأجمعُوا على صِحَّةِ الروايةِ بالعَرْضِ، وردُّوا ما حُكِىَ عَنْ بعضِ مَنْ لا يُعتَدُّ بخلافِهِ، أنَّهُ كانَ لا يَرَاها، وهو أبو عاصمٍ النَّبيلُ رواهُ الرَّامَهُرْمُزِيُّ عنه‏.‏ وروى الخطيبُ عن وكيعٍ قالَ‏:‏ ما أخذتُ حديثاً قطُّ عَرْضَاً‏.‏ وعن محمدِ بنِ سَلامٍ‏:‏ أَنَّهُ أدركَ مالكَ بنَ أنسٍ، والناسُ يَقْرَؤُونَ عليه فلم يَسْمَعْ منه لِذَلِكَ‏.‏ وكذلك عبدُ الرحمنِ بنُ سَلاَّمٍ الجُمَحِيُّ لم يكتفِ بذلكَ‏.‏ فقالَ مالكٌ‏:‏ أخرجوهُ عَنِّي‏.‏ وَمِمَّنْ قالَ بصحتِها مِنَ التَّابعينَ‏:‏ عطاءٌ ونافعٌ وعروةُ والشعبيُّ والزهريُّ ومكحولٌ والحسنُ ومنصورٌ وأيوبُ، ومن الأَئِمَّةِ‏:‏ ابنُ جريجٍ والثوريُّ وابنُ أبي ذِئْبٍ وشُعبةُ والأئمةُ الأربعةُ وابنُ مهدِيٍّ وشريكٌ والليثُ وأبو عُبيدٍ والبخاريُّ في خَلْقٍ لا يحصَوْنَ كثرةً‏.‏ واستدلَّ البخاريُّ على ذلك بحديثِ ضِمَامِ بنِ ثعلبةَ‏.‏

واختلفوا في القراءةِ على الشيخِ هل تساوي القسمَ الأولَ-وهو السَّماعُ من لفظهِ- أو هي دونَهُ، أو فوقَه‏؟‏ عَلَى ثلاثةِ أقوالٍ‏:‏ فذهبَ مالكٌ وأصحابُهُ ومعظمُ علماءِ الحجازِ والكوفةِ والبخاريُّ إِلَى التسويةِ بينَهما، وحكاهُ أبو بكرٍ الصيرفيُّ في كتابِ ‏"‏ الدلائلِ ‏"‏ عن الشافعيِّ، فَقَالَ‏:‏ وبابُ الحديثِ عندَ الشافعيِّ رحمهُ الله في القراءةِ عَلَى المحدّثِ، والقراءةِ مِنْهُ سواءٌ‏.‏ وذهبَ ابنُ أبي ذِئْبٍ، وأبو حَنيفةَ النعمانُ بنُ ثابتٍ، إِلَى ترجيحِ القراءةِ عَلَى الشَّيخِ عَلَى السَّماع ِمن لفظهِ، وحُكِيَ ذلكَ عن مالكٍ أيضاً، حكاهُ عَنْهُ ابنُ فارسٍ، وحكاهُ أيضاً عن ابنِ جُريج ٍوالحسنِ بنِ عمارةَ، ورواهُ الخطيبُ في ‏"‏ الكفاية ‏"‏ عن مالكٍ أيضاً، والليثِ بنِ سعدٍ وشعبةَ وابنِ لهيعةَ ويحيى بنِ سعيدٍ ويحيى بنِ عبدِ اللهِ بنِ بكيرٍ والعباسِ بنِ الوليدِ بنِ مَزْيَدٍ وأبي الوليدِ وموسى بن داودَ الضبيَّ الخلقانيِّ وأبي عُبيدٍ القاسمِ بنِ سَلاَّمٍ وأبي حاتِمٍ‏.‏ وذهب جمهورُ أهلِ الشرقِ إِلَى ترجيحِ السماعِ منْ لفظِ الشيخِ على القراءةِ عليهِ، وهو الصحيحُ‏.‏

384‏.‏ وَجَوَّدُوا فِيْهِ قَرَأْتُ أو قُرِىْ *** مَعْ وَ ‏(‏أَنَا أَسْمَعُ‏)‏ ثُمَّ عَبِّرِ

385‏.‏ بِمَا مَضَى فِي أولٍ مُقَيِّدَا *** ‏(‏قِرَاَءةً عَلَيْهِ‏)‏ حَتَّى مُنْشِدَا

386‏.‏ ‏(‏أَنْشَدَنَا قِرَاَءةً عَلَيْهِ‏)‏ لاَ *** ‏(‏سَمِعْتُ‏)‏ لَكِنْ بَعْضُهُمْ قَدْ حَلَّلاَ

387‏.‏ وَمُطْلَقُ التَّحْدِيْثِ وَالإِخْبَارِ *** مَنَعَهُ ‏(‏أَحْمَدُ‏)‏ ذُوْ الْمِقْدَارِ

388‏.‏ ‏(‏وَالنَّسَئِيُّ‏)‏ وَ ‏(‏التَّمِيْمِيْ يَحْيَى‏)‏ *** وَ ‏(‏ابْنُ الْمُبَارَكِ‏)‏ الْحمِيْدُ سَعْيَا

389‏.‏ وَذَهَبَ ‏(‏الزُّهْرِيُّ‏)‏ وَ ‏(‏الْقَطَّانُ‏)‏ *** وَ ‏(‏مَالِكٌ‏)‏ وَبَعْدَهُ ‏(‏سُفْيَانُ‏)‏

390‏.‏ وَمُعْظَمُ ‏(‏الْكُوْفَةِ‏)‏ وَ ‏(‏الْحِجَازِ‏)‏ *** مَعَ ‏(‏الْبُخَارِيِّ‏)‏ إلى الْجَوَازِ

391‏.‏ وَابْنُ جُرَيِجٍ وَكَذَا الأوزَاعِيْ *** مَعَ ‏(‏ابْنِ وَهْبٍ‏)‏ وَ ‏(‏الإمَامُ الشَّافِعِيْ‏)‏

392‏.‏ وَ ‏(‏مُسْلِمٌ‏)‏ وَجُلُّ ‏(‏أَهْلِ الشَّرْقِ‏)‏ *** قَدْ جَوَّزُوا أَخْبَرَنَا لِلْفَرْقِ

393‏.‏ وَقَدْ عَزَاهُ صَاحِبُ الإِنْصَافِ *** ‏(‏للنَّسَئيْ‏)‏ مِنْ غَيْرِ مَا خِلاَفِ

394‏.‏ وَالأَكْثَرِيْنَ وَهُوَ الَّذِي اشْتَهَرْ *** مُصْطَلَحاً لأَهْلِهِ أَهْلِ الأَثَرْ

هذا بيانٌ لعبارةِ أداءِ مَنْ سمعَ بالعَرْضِ‏.‏ وأجودُ العباراتِ فيه أنْ يقولَ قرأتُ على فلانٍ‏.‏ هذا إِنْ كان هو الذي قَرأَ‏.‏ فإِنْ سمعَ عليه بقراءةِ غيرهِ قالَ قُرِيء على فلانٍ وأنا أسمعُ، وهذا المرادُ بقولي‏:‏ ‏(‏وَجَوَّدُوا‏)‏- بالدال- أي‏:‏ رأوا أجودَ‏.‏ وقولي‏:‏ ‏(‏ثم عَبِّرِ‏)‏، أي‏:‏ ويلي هذه مِنَ العباراتِ العباراتُ التي مضتْ في القِسْمِ الأولِ مقيّدةً بما تبينَ أنَّ السماعَ عرضٌ، فيقولُ‏:‏ حَدَّثَنَا فلانٌ بقراءتِي، أو قراءةً عليه، وأنا أسمع وأخبرنا بقراءتي أو قراءةً عليه أو أنبأنا، أو نبأنا فلانٌ بقراءتِي أو قراءةً عليه، أو قالَ لنا فلانٌ قراءةً عليه، أو نحوَ ذلك، حتى استعملوهُ في الإنشادِ، فقالوا‏:‏ أنشدَنا فلانٌ قراءةً عليه، أو بقراءتِي عليه، ولم يستثنوا مما يجوزُ في القِسْمِ الأول إلا لفظَ سمعتُ فلم يُجَوِّزُوْهَا في العَرْضِ، وقد صَرَّحَ بذلك أحمدُ بنُ صالحٍ فقال‏:‏ لا يجوزُ أنْ يقولَ‏:‏ سمعتُ‏.‏ وقال القاضي أبو بكرٍ الباقلانيُّ‏:‏ إنَّهُ الصحيحُ‏.‏ قالَ‏:‏ وقالَ بعضُهم‏:‏ يجوزُ‏.‏ وقال القاضي عياضٌ‏:‏ وهو قولٌ رُوِيَ عَنْ مالكٍ والثوريِّ وابنِ عُيينةَ‏.‏ والصحيحُ ما تقدَّمَ، وهو المرادُ بقولي‏:‏ ‏(‏لا سمعتُ‏)‏‏.‏ فأمَّا إطلاقُ حَدَّثَنَا، وأخبرنا من غيرِ تقييدٍ بقوله‏:‏ بقراءتي، أو قراءةً عليه، فقد اختلفوا فيه على مذاهبَ‏:‏ فَذَهَبَ عبدُ الله بنُ المباركِ، ويحيى بنُ يحيى التميميُّ، وأحمدُ بنُ حنبلٍ، والنسائيُّ، فيما حكاه عنه ابنُ الصلاحِ‏.‏ تبعاً للقاضي عياضٍ إلى مَنْعِ إطلاقِهِما‏.‏ وقال القاضي أبو بكرٍ‏:‏ إِنَّهُ الصحيحُ‏.‏ وحكاهُ الخطيبُ عن ابنِ جُرَيْجٍ، خلافَ ما حكى عنه ابنُ الصلاحِ من التفرقةِ‏.‏ قال الخطيبُ‏:‏ وهو مذهبُ خَلْقٍ كثيرٍ من أصحابِ الحديثِ، وذهبَ أبو بكرِ بنُ شهابٍ الزهريُّ، ومالكٌ، والثَّوريُّ، وأبو حنيفةَ، وصاحباهُ، وسفيانُ بنُ عيينةَ، ويحيى بنُ سعيدٍ القَطَّانُ، ومعظمُ الحجازيين، والكوفيينَ، والبخاريُّ، إلى جوازِ إطلاقهِما‏.‏ ومِمَّنْ ذهبَ إلى أنَّ حَدَّثَنَا وأخبرنا سواءٌ‏:‏ يحيى بنُ سعيدٍ القطَّانُ، ويزيدُ بنُ هارونَ، والنَّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ، وأبو عاصمٍ النبيلُ، ووهبٌ بنُ جريرٍ، ومالكٌ في أحدِ القولينِ عنه، وأحمدُ بنُ حنبلٍ، وثعلبٌ، والطحاويُّ وصَنَّفَ فيه جزءاً سمعناهُ متصلاً وغيرُهم من أهلِ العلمِ وقد حكاهُ القاضي عياضٌ عن الأكثرينَ وكذا قالَ ابنُ فارسٍ‏:‏ ذهب إليه أكثرُ علمائِنا، وذهبَ ابنُ جريجٍ، والأوزاعيُّ، والشافعيُّ وأصحابُهُ وابنُ وَهْبٍ وجمهورُ أهلِ المشرقِ إلى الفرقِ بين اللفظين، فَجَوَّزُوا إطلاقَ‏:‏ أخبرنا، ولم يُجَوِّزُوا إطلاقَ‏:‏ حَدَّثَنَا، وعزاهُ محمدُ بنُ الحسنِ التَّمِيْمِيُّ الجوهريُّ في كتابِهِ ‏"‏الإنصافِ‏"‏ للنسائيِّ ولأكثرِ أصحابِ الحديثِ، وهو الشائعُ الغالبُ على أهلِ الحديثِ، كما قال ابنُ الصلاحِ وكأنَّهُ اصطلاحٌ للتمييزِ بين النوعينِ‏.‏

فقولي‏:‏ ‏(‏وبعدَهُ سُفيانُ‏)‏، إشارةٌ إلى أَنّهُ ابنُ عيينةَ، لا الثَّوريُّ؛ لأَنَّ الثَّوريَّ متقدمُ الوفاةِ عَلَى مالكٍ، كَمَا سيأتي في تاريخِ الوفياتِ، وابنُ عيينةَ متأخرٌ، وقولي‏:‏ ‏(‏وابنُ جريج‏)‏ مبتدأٌ وليسَ بمعطوفٍ‏.‏

395‏.‏ وَبَعْضُ مَنْ قَالَ بِذَا أَعَادَا *** قِرَاءَةَ الصَّحِيْحِ حَتَّى عَادَا

396‏.‏ فِي كُلِّ مَتْنٍ قَائِلاً‏:‏ ‏(‏أَخْبَرَكَا‏)‏ *** إِذْ كَانَ قال أوَّلاً‏:‏ ‏(‏حَدَّثَكَا‏)‏

397‏.‏ قُلْتُ وَذَا رَأْيُ الَّذِيْنَ اشْتَرَطُوا *** إِعادَةَ اْلإِسْنَادِ وَهْوَ شَطَطُ

أي‏:‏ وبعضُ مَنْ قالَ بالفرقِ بينَ اللَّفْظَيْنِ، وهو أبو حاتِمٍ محمدُ بنُ يعقوبَ الهرويُّ، فيما حكاهُ البَرْقانيُّ عنهُ؛ أَنَّهُ قرأَ على بعضِ الشيوخِ عِن الفِرَبْرِيِّ صحيحَ البخاريِّ، وكان يقولُ لهُ في كلِ حديثٍ حدَّثَكُم الفِرَبْرِيُّ، فلمَّا فَرَغَ من الكتابِ سَمِعَ الشيخَ يذكرُ أنَّهُ إنَّمَا سَمِعَ الكتابَ من الفِرَبْرِيِّ قراءةً عليه، فأَعادَ قراءةَ الكتابِ كُلِّهِ، وقالَ لهُ في جميعهِ‏:‏ أخبرَكُم الفِرَبْرِيُّ، قلتُ‏:‏ وكأَنَّهُ كانَ يرى أَنَّهُ لابُدَّ مِنْ ذِكْرِ السَّنَدِ في كُلِّ حديثٍ، وإنْ كانَ الإسنادُ واحداً إلى صاحبِ الكتابِ، وهو من مذاهبِ أهلِ التشديدِ في الروايةِ، وإلاَّ لاكتفى بقولهِ لهُ‏:‏ أخبرَكُم الفِرَبْرِيُّ بجميعِ صحيحِ البخاريِّ‏.‏ والصحيحُ أنَّهُ لا يحتاجُ إلى إعادةِ السَّنَد في كلِّ حديثٍ على ما سيأتي في موضوعِهِ إنْ شاءَ اللهُ تعالى‏.‏

تَفْرِيْعَاتٌ‏:‏ ‏[‏في القراءة على الشيخ‏]‏

398‏.‏ وَاخْتَلَفُوا إِنْ أَمْسَكَ الأَصْلَ رِضَا *** وَالشَّيْخُ لاَ يَحْفَظُ مَا قَدْ عُرِضَا

399‏.‏ فَبَعْضُ نُظَّارِ الأُصُوْلِ يُبْطِلُهْ *** وَأَكْثَرُ الْمُحَدِّثْيِنَ يَقْبَلْهْ

400‏.‏ وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ فَإِنْ لَمْ يُعْتَمَدْ *** مُمْسِكُهُ فَذَلِكَ السَّمَاعُ رَدّْ

إذا كانَ الشيخُ الذي يُقْرَأُ عليه عَرْضَاً لا يحفظُ ذلك المقروءَ عليهِ، فإنْ كانَ أصلُهُ بيدِهِ، فالسَّماعُ صحيحٌ-كما تَقَدَّمَ- وإنْ كانَ القارئُ يقرأُ في أصلِهِ فهوَ صحيحٌ أيضاً، خلافاً لبعضِ أهلِ التشديدِ في الروايةِ‏.‏ وإِنْ لَمْ تكنِ القراءةُ من الأَصلِ، ولكنَّ الأصلَ يُمسكُهُ أحدُ السامعينَ الثقاتِ، فاختلفوا في صحةِ السماعِ‏.‏ فحكى القاضي عياضٌ‏:‏ أنَّ القاضي أبا بكرٍ الباقلانيَّ تردَّدَ فيهِ‏.‏ قالَ‏:‏ وأكثرُ ميلِهِ إلى المنعِ‏.‏ قال‏:‏ وإليهِ نَحَا الجوينيُّ، يَعني‏:‏ إمامَ الحرمينِ قالَ‏:‏ وأجازَهُ بعضهُمْ، وصحَّحَهُ‏.‏ وبهذا عملَ كافةُ الشيوخِ وأهلُ الحديثِ‏.‏ وقالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ إنَّه المختارُ‏.‏ أمَّا إذا كانَ المُمْسِكُ للأصلِ، والحالةُ هذه لا يُعتَمَدُ عليه ولا يُوْثَقُ به، فذلك السماعُ مردودٌ غيرُ مُعْتَدٍّ بِهِ‏.‏

401‏.‏ وَاخْتَلَفُوا إنْ سَكَتَ الشَّيْخُ وَلَمْ *** يُقِرَّ لَفْظَاً، فَرآهُ الْمُعْظَمْ

402‏.‏ وَهْوَ الصَّحِيْحُ كَافِيَاً، وَقَدْ مَنَعْ *** بَعْضُ أولي الظَّاهِرِ مِنْهُ، وَقَطَعْ

403‏.‏ بِهِ ‏(‏أبُو الْفَتْحِ سُلَيْمُ الرَّازِي‏)‏ *** ثُمَّ ‏(‏أبُو إِسْحَاقٍ الشِّيْرَازِيْ‏)‏

404‏.‏ كَذَا ‏(‏أبُو نَصْرٍ‏)‏ وَقال‏:‏ يُعْمَلُ *** بِهِ وَألْفَاظُ الأَدَاءِ الأَوَّلُ

إذا قَرأَ القارئُ على الشَّيخِ، وسكتَ الشَّيخُ على ذلكَ، غيَر مُنْكِرٍ له مع إِصغائِهِ، وفهمِهِ، وَلمَ يُقِرَّ باللفظِ بقوله‏:‏ نَعَمْ وما أشبهَ ذلك، فذهبَ جمهورُ الفقهاءِ، والمحدِّثِيْنَ، والنُّظَّارِ؛- كَمَا قَالَ الْقَاضِي عياضٌ- إِلَى صحةِ السماعِ، وأَنَّ ذَلِكَ غيرُ شرطٍ، وقالَ‏:‏ إنَّهُ الصحيحُ‏.‏ قالَ‏:‏ وشَرَطَهُ بعضُ الظاهريةِ‏.‏ وبه عملَ جماعةٌ من مشايخِ أهلِ الشرقِ‏.‏ وَقَالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ وقَطَعَ بهِ أبو الفتحِ سُليمُ الرازيُّ، والشَّيخُ أبو إسحاقَ الشِّيْرَازيُّ، وأبو نصرٍ بنُ الصَّبَّاغِ من الشافعيِّينَ‏.‏ قَالَ ابنُ الصباغِ‏:‏ وله أَنْ يعملَ بِمَا قُرِئَ عليهِ، وإذا أرادَ روايتَهُ عنهُ، فليس لَهُ أَنْ يَقُوْل‏:‏ حَدَّثَنِي، ولا أَخْبَرَنِي، بَلْ قرأتُ عَلَيْهِ، أو قُرِئَ عليهِ وَهُوَ يسمعُ‏.‏ وهذا المرادُ بقولي‏:‏ ‏(‏وأَلْفَاظُ الأَدَاءِ الأُوَّلُ‏)‏، أي‏:‏ ويعبرُ في الأداءِ بالرتبةِ الأولى من الأداءِ في العَرْضِ، وَهُوَ ما تَقدَّمَ مِنْ قولي‏:‏ ‏(‏وجَوَّدُوْا فيهِ قرأتُ أوقُرِيْ‏)‏‏.‏وما قالَهُ ابنُ الصَّبَّاغِ من أَنَّهُ لا يُطْلِقُ فيهِ حَدَّثَنَا ولا أخبرنا هو الذي صحَّحَهُ الغزاليُّ وحكاهُ الآمديُّ عن المتكلمِيْنَ وصحَّحَهُ‏.‏ وحَكَى الآمديُّ تجويزَهُ عن الفقهاءِ والمحدِّثِيْنَ، وصححهُ ابنُ الحاجبِ وحكى عن الحاكمِ أنه مذهبُ الأَئمةِ الأربعةِ‏.‏ وإِنْ أشارَ الشيخُ برأسِهِ أو أصبُعِهِ للإقرارِ بهِ، ولم يتلفَّظْ، فجزمَ صاحبُ ‏"‏ المحصولِ ‏"‏‏:‏ بأَنَّهُ لا يَقولُ في الأَداءِ‏:‏ حَدَّثَنِي ولا أخبرني ولا سمعْتُ، وفيهِ نظرٌ‏.‏

405‏.‏ وَالْحَاْكِمُ اخْتَارَ الَّذِي قَدْ عَهِدَا *** عَلَيْهِ أَكْثَرَ الشُّيُوْخِ فِي الأَدَا

406‏.‏ حَدَّثَنِي فِي الْلَفْظِ حَيْثُ انْفَرَدَا *** وَاجْمَعْ ضَمِيْرَهُ إذا تَعَدَّدَا

407‏.‏ وَالْعَرْضِ إِنْ تَسْمَعْ فَقُلْ أَخْبَرَنَا *** أو قَارِئَاً ‏(‏أَخْبَرَنِي‏)‏ واسْتُحْسِنا

408‏.‏ وَنَحْوُهُ عَنِ ‏(‏ابْنِ وَهْبٍ‏)‏ رُوِيَا *** وَلَيْسَ بِالْوَاجِبِ لَكِنْ رُضِيَا

هذا بيانٌ لأَلفاظِ الأَداءِ التي ينبغي استعمالُها بحسَبِ تحملِ الحديثِ‏.‏ قالَ الحاكمُ‏:‏ الذي أَخْتَارُهُ في الروايةِ وعهدْتُ عليهِ أكثرَ شُيوخي وأَئِمَّةَ عصرِي، أَنْ يقولَ في الذي يأْخذُهُ من المحدِّثِ لفظاً، وليسَ معهُ أَحدٌ‏:‏ حَدَّثَنِي فلانٌ، وما كانَ مَعَهُ غيرُه‏:‏ حَدَّثَنَا فلانٌ‏.‏ وهذا معنى قولي‏:‏ ‏(‏واجْمَعْ ضَمِيرَه إذا تَعَدَّدَا‏)‏‏.‏ قالَ الحاكمُ‏:‏ وما قُرِئَ على المحدِّثِ بنفسِهِ‏:‏ أخبرني فلانٌ، وما قُرِئَ على المحدِّثِ وهو حاضرٌ‏:‏ أخبرنا فلانٌ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ وهوَ حَسَنٌ رائِقٌ‏.‏ ورَوَى الترمذيُّ في ‏"‏ العللِ ‏"‏ عن ابنِ وَهْبٍ قالَ‏:‏ ما قلتُ‏:‏ حَدَّثَنَا فهو ما سمعتُ مع الناسِ، وما قلتُ‏:‏ حَدَّثَنِي فهو ما سمعتُ وحدي‏.‏ وما قلتُ‏:‏ أخبرنا فهو ما قُرِئَ على العالِمِ وأنا شاهدٌ‏.‏ وما قلتُ‏:‏ أخبرني فهو ما قرأتُ على العالمِ‏.‏ وفي كلامِ الحاكمِ وابنِ وَهْبٍ أَنَّ القارئَ يقولُ‏:‏ أخبرني سواءٌ سمعَ معهُ غيرُه، أَم لا‏.‏ وقالَ ابنُ دقيقِ العيدِ في ‏"‏ الاقتراحِ‏"‏‏:‏ إنَّ القارئَ إذا كانَ مَعَهُ غيرُهُ يقولُ‏:‏ أخبرنا فسوَّى بينَ مسألَتي التَّحْدِيثِ والإخبارِ في ذلكَ‏.‏ ثُمَّ إِنَّ هذا التفصيلَ في أَلفاظِ الأَداءِ ليسَ بواجبٍ، ولكنَّهُ مستحبٌ، حكاهُ الخطيبُ عن أَهلِ العلمِ كافةً‏.‏ فجائزٌ لِمَنْ سَمِعَ وحدَهُ أنْ يقولَ‏:‏ أخبرنا وحَدَّثَنَا ولِمَنْ سَمِعَ معَ غيرهِ أَنْ يقولَ‏:‏ أخبرني وحَدَّثَنِي، ونحوَ ذلكَ‏.‏

409‏.‏ وَالشَّكُ فِي الأَخْذِ أكَانَ وَحْدَهْ *** أو مَعْ سِوَاهُ‏؟‏ فَاعِتَبارُ الْوَحْدَهْ

410‏.‏ مُحْتَمَلٌ لَكِنْ رأى الْقَطَّانُ *** اَلْجَمْعَ فِيْمَا أوْ هَمَ الإِْنْسَانُ

411‏.‏ فِي شَيْخِهِ مَا قَالَ وَالْوَحْدَةَ قَدْ *** اخْتَارَ فِي ذَا الْبَيْهَقِيُّ وَاعْتَمَدْ

إذا شكَّ الراوي هلْ كانَ وحدَهُ حالةَ التحمُّلِ فيقولُ في الأَداءِ‏:‏ حَدَّثَنِي، أو كانَ معهُ غيرُهُ، فيقولُ‏:‏ حَدَّثَنَا‏؟‏‏!‏ فيحتملُ أَنْ يُقالَ‏:‏ يؤدى بلفظِ مَنْ سَمِعَ وحدَهُ؛ لأَنَّ الأصلَ عدمُ غيرِهِ‏.‏ أَمَّا إذا شكَّ في تحمَّلِهِ هلْ هوَ مِنْ قَبيلِ‏:‏ أَخبرنا، أو أَخْبَرَنِي‏؟‏ فقدْ جمعها ابنُ الصلاحِ معَ مسألةِ الشكِّ هلْ هوَ من قبيلِ‏:‏ حَدَّثَنَا، أو حَدَّثَنِي‏؟‏‏!‏ وأنه يحتملُ أن يقولَ‏:‏ أخبرني؛ لأَنَّ عدمَ غيرهِ هو الأصلُ‏.‏ وفيه نظرٌ؛ لأَنَّ قبيلَ أخبرني أن يكونَ هو الذي قَرَأَ بنفسِهِ على الشيخِ على ما ذكرهُ ابنُ الصلاحِ، وعلى هذا فهو يتحقَّقُ سماعَ نفسِهِ، ويشكُّ هل قَرَأَ بنفسِهِ أم لا‏؟‏ والأصلُ‏:‏ أنَّهُ لَمْ يقرَأْ‏.‏ وَقَدْ حَكَى الخطيبُ في ‏"‏ الكفايةِ ‏"‏ عن البَرْقانيِّ‏:‏ أَنَّهُ ربُّما شَكَّ في الحديثِ هَلْ قرأَهُ هُوَ أو قُرِئَ وَهُوَ يَسْمَعُ فيقولُ فيهِ‏:‏ قرأْنَا عَلَى فلانٍ‏؟‏‏!‏ وهذا حَسَنٌ فإِن إِفرادَ الضميرِ يقتضي قراءَتَهُ بنفسِهِ، وجَمْعُهُ يُمكنُ حَمْلهُ على قراءةِ بعضِ مَنْ حَضَرَ لسماعِ الحديثِ، بل لو تحققَ أَنَّ الذي قَرَأَ غيرُهُ فلا بأْسَ أَنْ يقولَ‏:‏ قرأْنَا‏.‏ قالَهُ أحمدُ بنُ صالحٍ حين سُئِلَ عنهُ‏.‏ وقال النُفَيْليُّ‏:‏ قرأْنَا على مالكٍ، وإنَّما قُرِئَ على مالكٍ، وهو يَسمَعُ‏.‏ وأما مسألةُ الشكِّ هلْ هوَ من قَبِيلِ‏:‏ حَدَّثَنَا أو حَدَّثَنِي، فقدْ رأَى يحيى بنُ سعيدٍ القطانُ‏:‏ الإتيانَ بضميرِ الجمعِ حَدَّثَنَا في مسألةٍ تُشْبِهُهَا، وهيَ إذا شكَّ في لفظِ شيخِه، هلْ قالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أو حَدَّثَنَا‏؟‏ ومقتضاهُ هنا أَنْ يقولَ‏:‏ حَدَّثَنَا، وكَأَنَّ وَجْهَهُ‏:‏ أَنَّ حَدَّثَنِي أَكملُ مرتبةً فيُقتصَرُ في حالةِ الشكِّ على الناقصِ، وقدِ اختارَ البيهقيُّ- بعد حكايتِهِ كلامَ ابنِ القَطَّانِ-‏:‏ أَنَّهُ يوحِّدُ فيقولُ‏:‏ حَدَّثَنِي‏.‏ وقولي‏:‏ ‏(‏فيما أوهَمَ‏)‏، أي‏:‏ شَكَّ، ومنهُ حديثُ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ‏:‏ «إذا أَوهَمَ أَحدُكُم في صلاتِهِ فلم يَدْرِ أَزادَ أو نَقَصَ، …» الحديثَ‏.‏ وقالَ ثعلبٌ‏:‏ أوهَمَ‏:‏ تَرَكَ‏.‏ وهذا لا يمشي في هذا الحديثِ، وحَكَى صاحبُ ‏"‏ المُحْكَمِ ‏"‏ عن ابنِ الأَعرابيِّ، قالَ‏:‏ أوهَمَ وَوَهَم سواءٌ، وأَنشدَ‏:‏

فَقَدْ يَهِمُ المُصَافِيْ بالحبَيِبِ فَإنْ أخْطَأْتُ أَوْ أوهَمْتُ شَيْئَاً

وقال‏:‏ قولُهُ‏:‏ ‏(‏شيئاً‏)‏ منصوبٌ على المصدرِ‏.‏

412‏.‏ وَقَالَ ‏(‏أَحْمَدُ‏)‏‏:‏ اتَّبِعْ لَفْظَاً وَرَدْ *** لِلشَّيْخِ فِي أَدَائِهِ وَلاَ تَعَدْ

413‏.‏ وَمَنَعَ الإبْدَالَ فِيْمَا صُنِّفَا *** الشَّيْخُ لَكِنْ حَيْثُ رَاوٍ عُرِفَا

414‏.‏ بِأَنَّهُ سَوَّى فَفِيْهِ مَا جَرَى *** فِي النَّقْلِ باِلْمَعْنَى، وَمَعْ ذَا فَيَرَى

415‏.‏ بِأَنَّ ذَا فِيْمَا رَوَى ذُو الطَّلَبِ *** بِالْلَفْظِ لاَ مَا وَضَعُوا فِي الْكُتُبِ

قالَ أحمدُ بنُ حنبلٍ‏:‏ اتَّبِعْ لفظَ الشيخِ في قولهِ‏:‏ حَدَّثَنَا وحَدَّثَنِي وسمعتُ وأَخبرنا ولا تَعْدَهُ‏.‏ ومنعَ ابنُ الصلاحِ إبدالَ أخبرنا‏:‏ بحَدَّثَنَا ونحوهِ في الكُتُبِ المصنَّفةِ، وإنْ كانَ في إِقامةِ أحدهِما مُقامَ الآخرِ خلافٌ؛ لاحتمالِ أَنْ يكونَ قائلُ ذلكَ لا يَرَى التسويةَ بينهُمَا، فإنْ عرفْتَ أنَّ قائلَ ذلك سَوَّى بينهُمَا ففيهِ الخلافُ في جوازِ الروايةِ بالمعنى-كما قالَ الخطيبُ- قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ الذي نراهُ الامتناعَ من إِجراءِ مثلِهِ فيما وُضِعَ في الكُتُبِ المصنَّفَةِ‏.‏ وما ذكَرَه الخطيبُ محمولٌ عندَنا على ما يَسْمَعُهُ الطالبُ من لفظِ المحدثِ غيرَ موضوعٍ في كتابٍ مؤلفٍ‏.‏ قال ابنُ دقيقِ العيدِ‏:‏ وهذا كلامٌ فيه ضَعْفٌ‏.‏ قال‏:‏ وأَقلُّ ما فيهِ أَنَّهُ يقتضِي تجويزَ هذا فيما ينقلُ مِنَ المصنفاتِ المتقدِّمَةِ إلى أجزائِنَا وتخاريجِنَا، فإنَّهُ ليسَ فيهِ تغييرُ التصنيفِ المتقدِّمِ‏.‏ قالَ‏:‏ وليسَ هذا جارياً على الاصطلاح‏.‏ قلتُ‏:‏ لا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يقتضي ذلك، بلْ آخرُ كلامِ ابنِ الصلاح يُشْعِرُ‏:‏ أَنَّهُ إذا نُقِلَ حديثٌ مِنْ كتابٍ وعُزِيَ إليه، لا يجوزُ فيه الإبدالُ سواءٌ أَنقلَناهُ في تأَليفٍ لنا أَم لفظاً‏؟‏ واللهُ أعلمُ‏.‏

416‏.‏ وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ السَّمَاعِ *** مِنْ نَاسِخٍ، فَقَالَ بَامْتِنَاعِ

417‏.‏ ‏(‏الإِسْفَرَاييِنِيْ‏)‏ مَعَ ‏(‏الْحَرْبِيِّ‏)‏ *** وِ ‏(‏ابْنِ عَدِيٍّ‏)‏ وَعَنِ ‏(‏الصِّبْغِيِّ‏)‏

418‏.‏ لاَ تَرْوِ تَحْدِيْثاً وَإِخْبَاراً، قُلِ *** حَضَرْتُ وَالرَّازِيُّ وَهْوَ الْحَنْظَلِيْ

419‏.‏ وَ ‏(‏ابْنُ الْمُبَارَكِ‏)‏ كِلاَهُمَا كَتَبْ *** وَجَوَّزَ ‏(‏الْحَمَّالُ‏)‏ وَالشَّيْخُ ذَهَبْ

420‏.‏ بِأَنَّ خَيْراً مِنْهُ أَنْ يُفَصِّلاَ *** فَحَيْثُ فَهْمٌ صَحَّ، أولاَ بَطَلاَ

421‏.‏ كَماَ جَرَى لِلدَّارَقُطْنِي حَيْثُ عَدْ *** إِمْلاَءَ ‏(‏إِسْمَاعِيْلَ‏)‏ عَدّاً وَسَرَدْ

اختلفَ أهلُ العلمِ فيمَنْ ينسخُ في حالةِ السماعِ سواءٌ في ذلكَ الشيخُ المسُمِعُ، والطالبُ السامعُ؛ هَلْ يصحُّ السماعُ أم لاَ‏؟‏ فذهبَ أبو إسحاقَ الإسفرايينيُّ الأُستاذُ، وإبراهيمُ الحربيُّ، وأبو أحمدَ بنُ عديٍّ وغيرُ واحدٍ من الأَئِمَّةِ إلى مَنْعِ الصحةِ مطلقاً، وذهبَ الإمامُ أبو بكرٍ أحمدُ بنُ إِسحاقَ الصِّبْغيُّ إلى أَنَّهُ لا يقولُ في الأَداءِ‏:‏ حَدَّثَنَا ولا أَخْبرنا، بلُ يقولُ‏:‏ حَضَرْتُ، وذهبَ موسى بنُ هارونَ الحمَّالِ إلى الصحةِ

مطلقاً‏.‏ وقد كتبَ أبو حاتِمٍ محمدُ بنُ إدريسَ الرازيُّ الحنظليُّ في حالةِ السماعِ عند عارمٍ، وعندَ عمرِو بنِ مرزوقٍ، وكتبَ أيضاً عبدُ اللهِ بنُ المباركِ وهو يَقْرَأُ عليهِ شيئاً آخرَ غيرَ ما يُقرأُ عليهِ‏.‏ قال ابنُ الصلاحِ‏:‏ وخيرٌ من هذا الإطلاقِ التفصيلُ، فنقولُ‏:‏ لا يصحُّ السماعُ إذا كانَ النَّسْخُ بحيثُ يمتنعُ معهُ فَهْمُ الناسخِ لما يُقرأُ حَتى يكونَ الواصلُ إلى سمعِهِ كأَنّهُ صوتٌ غُفْلٌ، ويصحُّ بحيثُ إذا كانَ لا يمتنعُ معهُ الفهمُ كقصةِ الدارقطنيِّ إذْ حضرَ في حَدَاثَتِهِ مجلسَ إِسماعيلَ الصَّفَّارِ، فجلسَ ينسخُ جُزءَاً كانَ معَهُ وإِسماعيلُ يُمْلي فقالَ لهُ بعضُ الحاضرينَ‏:‏ لا يصحُّ سماعُكَ وأنتَ تنسخُ، فقالَ‏:‏ فَهْمِي للإملاءِ خِلافُ فَهْمِكَ، ثُمَّ قالَ‏:‏ تحفظُ كمْ أَملى الشيخُ مَنْ حديثٍ إلى الآنَ‏؟‏ فقالَ‏:‏ لا‏.‏ فقالَ الدَّارقطنيُّ‏:‏ أَملى ثمانيةَ عَشَرَ حديثاً، فعدَدْتُ الأحاديثَ فوجدْتُ كما قالَ‏.‏ ثُمَّ قالَ‏:‏ الحديثُ الأولُ منها‏:‏ عن فلانٍ عن فلانٍ، ومتنُهُ كذا، والحديثُ الثاني عن فلانٍ عن فلانٍ، ومتنُهُ‏:‏ كذا، ولم يزلْ يَذْكُرُ أسانيدَ الأحاديثِ ومتونَها على ترتيبهَا في الإملاءِ حتى أَتَى على آخِرِها فعجِبَ الناسُ منه‏.‏

422‏.‏ وَذَاكَ يَجْرِي فِي الْكَلاَمِ أو إذا *** هَيْنَمَ حَتَّى خَفِيَ الْبَعْضُ، كَذَا

423‏.‏ إِنْ بَعُدَ السَّامِعُ، ثُمَّ يُحْتَمَلْ *** فِي الظَّاهِرِ الْكَلِمَتَانِ أو أَقَلْ

أي‏:‏ وما ذُكِرَ في النَّسْخِ من التفصيلِ يجري في الكلامِ في وقتِ السماعِ مِنَ السامعِ، أو الشيخِ‏.‏ وكذا إذا هَيْنَمَ القارئُ والْهَيْنَمَةُ‏:‏ الصوتُ الخفيُّ، قاله الجوهريُّ‏.‏ وكذا إذا أَفْرَطَ في الإسراعِ بحيثُ يخفى بعضُ الكَلِمِ، أو كان السامعُ بعيداً عن القارئ وما أَشْبَهَ ذلكَ‏.‏ ثُمَّ الظاهرُ أنَّهُ يُعْفَى في كلِّ ذلكَ عن القَدَرِ اليَسِيْرِ، نحوِ الكلمةِ والكلمتَيْنِ‏.‏

424‏.‏ وَيَنْبَغِي لِلشَّيْخِ أَنْ يُجِيْزَ مَعْ *** إِسْمَاعِهِ جَبْرَاً لِنَقْصٍ إنْ يَقَعْ

425‏.‏ قَالَ‏:‏ ابْنُ عَتَّابٍ وَلاَ غِنَى عَنْ *** إِجَازَةٍ مَعَ السَّمَاعِ تُقْرَنْ

لما ذَكَرَ أَنَّهُ رُبَّما عَزَبَ عن السامعِ الكلمةُ والكلمتانِ، لعجلةِ القارئِ، أو هينمتِهِ، أو كلامٍ، ونحوِ ذلكَ، ذَكَرَ ما يَجْبُرُ ذلك، وهو أنَّهُ يُسْتَحَبُّ للشيخِ أَنْ يجيزَ للسامعيَن روايةَ الكتابِ أو الجزءِ الذي سمعُوْهُ وإنْ شملَهُ السَّماعُ لاحتمالِ وقوعِ شيءٍ ممَّا تقدَّمَ فينجَبرُ بذلكَ‏.‏ وكذلكَ ينبغي لكاتبِ السماعِ أَنْ يَكْتُبَ إِجازةَ الشَّيخِ عَقِبَ كتابةِ السَّماعِ، ويقالُ‏:‏ إنَّ أولَ مَنْ كَتَبَ الإجازةَ في طِبَاقِ السَّماعِ‏:‏ أبو الطاهرِ إسماعيلُ بنُ عبدِ المحسنِ الأنماطيُّ، فجزاهُ الله خَيْراً في سَنِّهِ ذلكَ لأَهْلِ الحديثِ، فلقدْ حَصَلَ به نفعٌ كثيرٌ، ولقدِ انقطعَ بسببِ تَرْكِ ذَلِكَ، وإهمالِهِ اتصالُ بعضِ الكُتُبِ في بعضِ البلادِ، بسببِ كونِ بعضِهِمْ كَانَ لَهُ فَوْتٌ، ولَمْ يذكرْ في طبقةِ السَّماعِ إجازةَ الشيخِ لهم، فاتَّفَقَ أنْ كانَ بعضُ المفوتينَ آخرَ مَنْ بَقِيَ مِمَّنْ سَمِعَ بعضَ ذلك الكتابَ فَتَعَذَّرَ قراءةُ جميعِ الكتابِ عليه كأبي الحسنِ بنِ الصَّوَّافِ الشَّاطبيِّ، راوي غالبِ سُنَنِ النسائيِّ عن ابنِ باقا، واللهُ أعلمُ‏.‏ وقالَ أبو عبدِ الله بنُ عتابٍ الأندلسيُّ‏:‏ «لا غنَى في السماعِ عن الإجازَةِ؛ لأَنَّهُ قدْ يغلَطُ القارئُ، ويغفلُ الشيخُ، أو يَغلطُ الشيخُ إن كان القارئُ، ويغفلُ السامعُ فينجبِرُ لَهُ ما فاتهُ بالإجازةِ»‏.‏ واللهُ أعلمُ‏.‏

426‏.‏ وَسُئِلَ ‏(‏ابْنُ حنبلٍ‏)‏ إِن حَرْفَا *** أدْغَمَهُ فَقَالَ‏:‏ أَرْجُو يُعْفَى

427‏.‏ لَكِنْ ‏(‏أبو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ‏)‏ مَنَعْ *** فِي الْحَرْفِ تَسْتَفْهِمُهُ فَلاَ يَسَعْ

428‏.‏ إِلاَّ بَأَنْ يَرْوِيَ تِلْكَ الشَّارِدَهْ *** عَنْ مُفْهِمٍ، وَ نَحْوُهُ عَنْ ‏(‏زَائِدَهْ‏)‏

قال صالحُ بنُ أحمدَ بنِ حنبلٍ‏:‏ قلتُ لأبي‏:‏ الشَّيْخُ يُدْغِمُ الحرفَ يَعْرفُ أَنَّهُ

كذا وكذا ولا يُفْهَمُ عنه، تَرَى أنْ يُروى ذلك عنه‏؟‏ قال‏:‏ أرجو ألاَّ يُضَيَّقَ

هذا‏.‏ وأما أبو نُعَيْمٍ الفَضْلُ بنُ دُكَيْنٍ فكانَ يَرَى فيما سَقَطَ عنهُ من الحرفِ الواحدِ والاسمِ مما سمعَهُ من سفيانَ والأعمشِ، واستفهمَهُ من أصحابهِ أَنْ يرويهِ عن أَصَحابِهِ لا يَرَى غيرَ ذلك واسعاً‏.‏

فقولي‏:‏ ‏(‏تلكَ الشَّارِدَهْ‏)‏، أي‏:‏ تلكَ الكلمةُ أو الحرفُ الذي شردَ عنه، فلم يَفْهَمْهُ عن شيخِهِ، وإنَّماْ فهِمَهُ عَنِ الشيخِ غيرُه، وهكذا جاءَ عن زائدةَ بنِ قُدامةَ، قال خَلَفُ بنُ تميم‏:‏ سمعتُ من الثَّوريِّ عشرةَ آلافِ حديثٍ، أو نحوَها، فكنتُ أَستفهمُ جليسيَ، فقلتُ لزائدةَ‏:‏ فقالَ لي‏:‏ لا تُحَدِّثْ منها إلاّ بما تحفَظُ بقلبِكَ وسَمْع أُذُنِكَ‏.‏ قالَ‏:‏ فألْقَيْتُهَا‏.‏

429‏.‏ وَ ‏(‏خَلَفُ بْنُ سَاِلمٍ‏)‏ قَدْ قال‏:‏ نَا *** إِذْ فَاتَهُ حَدَّثَ مِنْ حَدَّثَنَا

430‏.‏ مِنْ قَوْلِ سُفْيَانَ، وَسُفْيَانُ اكْتَفَى *** بِلَفْظِ مُسْتَمْلٍ عَنِ الْمُمْلِى اقْتَفَى

431‏.‏ كَذَاكَ ‏(‏حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ‏)‏ أَفْتَى‏:‏ *** إِسْتَفْهمِ الَّذِي يَلِيْكَ، حَتَّى

432‏.‏ رَوَوْا عَنِ ‏(‏الأَعْمَشِ‏)‏‏:‏ كُنَّا نَقْعُدُ *** ‏(‏لِلنَّخَعِيْ‏)‏ فَرُبَّمَا قَدْ يَبْعُدُ

433‏.‏ البَعْضُ- لاَ يَسْمَعُهُ- فَيسأَلُ *** البَعْضَ عَنْهُ، ثَمَّ كُلٌّ يَنْقُلُ

434‏.‏ وَكُلُّ ذَا تَسَاهُلٌ، وَقَوْلُهُمْ‏:‏ *** يَكْفِيِ مِنَ الْحَدِيْثِ شَمُّهُ، فَهُمْ

435‏.‏ عَنَوا إذا أَوَّلَ شَيءٍ سُئِلاَ *** عَرَفَهُ، وَمَا عَنَوْا تَسَهُّلاَ

قالَ الخطيبُ‏:‏ بلغني عَنْ خَلَف بنِ سالمٍ الْمُخَرِّميِّ، قالَ‏:‏ سمعتُ ابنَ عُيينةَ يقولُ‏:‏ ‏(‏نا‏)‏ عمرُو بنُ دينارٍ، يريدُ‏:‏ حَدَّثَنَا، فإذا قيِلَ له‏:‏ قُلْ‏:‏ حَدَّثَنَا عمرٌو، قالَ‏:‏ لا أَقولُ لأَنِّي لم أَسْمَعْ مِنْ قولِهِ-حَدَّثَنَا- ثلاثَةَ أحْرُفٍ؛ لِكَثْرَةِ الزِّحَامِ، وهي ح د ث‏.‏ وعن ابنِ عُيينةَ أَنهُ قالَ له أبو مُسْلِمٍ الْمُسْتَمْلي‏:‏ إنَّ الناسَ كثيرٌ لا يسْمَعُونَ‏.‏ قالَ‏:‏ تسمعُ أَنْتَ‏؟‏ قالَ‏:‏ نَعَمْ‏.‏ قالَ‏:‏ فَأَسْمِعْهُم‏.‏ قالَ‏:‏ وهذا هوَ الذي عليهِ العملُ،

أي‏:‏ أنَّ مَنْ سَمِعَ الْمُسْتَمْلي دونَ سَماعِ لفظِ المُمْلي جازَ له أَنْ يَرْوِيَهُ عن المُمْلي كالعَرْضِ، سواءٌ؛ لأَنَّ الْمُسْتَمْلي في حُكْمِ مَنْ يقرأُ على الشيخِ ويعرِضُ حديثَهُ عليه ولكن يُشْتَرَط أَنْ يَسْمعَ الشيخُ المُمْلي لَفْظَ الْمُسْتَمْلي، كالقارئِ عليه‏.‏ ومَعَ هذا فليسَ لِمَنْ لم يسمعْ لفظَ المُمْلي أَنْ يقول‏:‏ سمعْتُ فلاناً يقولُ- كما تقدَّمَ في العَرْض- سواءٌ، ولكنَّ الأَحوطَ أن يُبَيِّنَ حالةَ الأَداءِ أنَّ سماعَهُ لذلكَ، أو لبعضِ الأَلفاظِ، من الْمُسْتَمْلي، كما فَعَلَهُ الإمامُ أبو بكرِ بنُ خُزيمةَ، وغيرُهُ من الأَئِمَّةِ‏.‏

وقالَ محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنُ عَمَّارٍ الموْصليُّ‏:‏ ما كتبتُ قطُّ مِنْ في المُسْتَمْلي، ولا التفَتْتُ إليهِ، ولا أَدْري أَيَّ شيءٍ يقولُ، إنَّما كنتُ أكتبُ عن فِي المحُدِّثِ‏.‏ وأمَّا قولُ حَمَّادِ بنِ زيدٍ لمن استفهَمَهُ، كيف قُلتَ‏؟‏ فقالَ‏:‏ استفهِم الذي يليكَ‏.‏ وقولُ الأعمَشِ‏:‏ كُنَّا نجلسُ إلى إبراهيمَ النخعيِّ فتتسعُ الحلقةُ فَرُبَّمَا يُحَدِّثُ بالحديثِ فلا يسمَعُهُ مَنْ تَنَحّى عنهُ، فَيَسْأَلُ بعضُهُم بَعْضَاً، عمَّا قالَ، ثُمَّ يروُونَهُ عنهُ، وما سمعُوهُ منهُ، فهذا وما أشبههُ تساهلٌ ممنْ فَعلَهُ، وقد قالَ أبو زُرْعَةَ- بعدَ أَنْ رَوَى حكايةَ الأعمشِ هذهِ-‏:‏ رأيتُ أبا نُعَيمٍ لا يُعْجِبُهُ هذا، ولا يَرْضَى به لنفسِهِ، وأَمَّا قولُ عبدِ الرحمنَ بنِ مهديٍّ‏:‏ يكفيكَ من الحديثِ شَمُّهُ، فقال حمزة بنُ محمدٍ الكنانيُّ‏:‏ إنَّهُ يعني بهِ إذا سُئِلَ عن أوَّلِ شيءٍ عَرَفَهُ، وليسَ يعني التسهيلَ في السماعِ‏.‏

436‏.‏ وَإِنْ يُحَدِّثْ مِنْ وَرَاءِ سِتْرِ *** عَرَفْتَهُ بِصَوْتِهِ او ذِي خُبْرِ

437‏.‏ صَحَّ، وَعَنْ شُعْبَةَ لاَ تَرْوِ لَنَا *** إنَّ بِلاَلاً، وَحَدِيْثُ أُمِّنَا

يَصحُّ السَّماعُ من وراءِ حجابٍ، إذا عرفَ صَوْتَ المحدِّثِ، أو اعتمدَ في معرفةِ صوتِهِ وحضورِهِ على خَبرِ ثقةٍ مِنْ أَهْلِ الخبرَةِ بالمحدِّثِ، وقالَ شعبةُ‏:‏ إذا حدَّثَكَ المحدِّثُ فلمْ تَرَ وَجْهَهُ فلا تروِ عنهُ، فلَعَلَّهُ شيطانٌ قد تَصَوَّرَ في صورتِهِ، يقولُ‏:‏ حَدَّثَنَا وأمرنا‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏لنا إنَّ بلالاً‏)‏ إلى آخرِهِ، أي‏:‏ الْحُجَّةُ لنا في صحةِ السماعِ من وراءِ حِجَابٍ حديثُ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ الْمُتَّفَقُ عليهِ‏:‏ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إنَّ بلالاً يُؤَذِّنُ بليلٍ فكلُوا واشربُوا حتى تسمعُوا آذانَ ابنِ أُمِّ مكتومٍ‏.‏ فأَمَرَ بالاعتمادِ على صوتِهِ مع غَيْبَةِ شَخْصِهِ عمَّنْ يَسْمَعَهُ‏.‏ وكذلكَ حديثُ أُمِّ المؤمنينَ عائشةَ وغيرِها مِن أُمَّهاتِ المؤمنينَ كنَّ يُحدِّثْنَ مِنْ وراءِ حجابٍ، وينقلُ عنهنَّ مَنْ سمعَ ذلكَ، واحْتَجَّ به في الصحيحِ‏.‏ وهذا معنى قولي‏:‏ ‏(‏وحديثُ أُمِّنَا‏)‏‏.‏

438‏.‏ وَلاَ يَضُرُّ سَامِعاً أنْ يَمْنَعَهْ *** الشَّيْخُ أَنْ يَرْوِيَ مَا قَدْ سَمِعَهْ

439‏.‏ كَذَلِكَ التَّخْصِيْصُ أو رَجَعْتُ *** مَاَ لمْ يَقُلْ‏:‏ أَخْطَأْتُ أو شَكَكْتُ

إذا سمعَ من شيخٍ حديثاً ثم قال له‏:‏ لا تَرْوِهِ عَنِّي، أو ما أَذنْتُ لكَ في روايتهِ عني ونحوَ ذلكَ، فلا يضرُّهُ ذلكَ ولا يمنعُهُ أَنْ يرويَهُ عنهُ‏.‏ وكذلكَ إذا خصَّصَ قوماً بالسَّماعِ، وسَمِعَ غيرُهُمْ مِنْ غيرِ أَنْ يَعْلَمَ المحدِّثُ بهِ، كما صَرَّحَ بهِ الأستاذُ أبو إسحاقَ الإسفرايينيُّ‏.‏ وكذلكَ لوْ قالَ‏:‏ إنِّي أخُبِرُكُم ولا أُخْبِرُ فلاناً فلا يضرُّ ذلكَ فلاناً في صحَّةِ سماعِهِ، وكذا إِنْ قالَ‏:‏ رجعتُ عمَّا حدَّثْتُكُمُ بهِ ونحوَ ذلكَ مما لا ينفي أنَّهُ من حديثِهِ ما لم يكنِ المنعُ مُستنداً إلى أَنَّهُ أَخْطَأَ فيما حدَّثَ بهِ، أو شَكَّ في سماعِهِ ونحوِ ذلكَ، فليسَ لهُ أَنْ يرويَهُ عنهُ والحالةُ هذهِ‏.‏